الخِلافَة التُّركيَّة والوِلايةُ الإِيرانيَّة
تَشكل الإسلام السِّياسي، كأحزاب وجماعات معاصرة، بعد الدَّولة العثمانيَّة، لملء الفراغ الذي أحدثه سقوطها، وقبل ذلك كان جمال الدِّين الأفغاني (ت 1897) يجوب بلدانها بحثاً عن رابطة إسلاميَّة عالميَّة، يكون رأسها السُّلطان عبدالحميد الثَّاني (ت 1918)، بعد أن بدأ العثمانيون يؤسسون لفكرة الخلافة، وجدوا سبباً كي تكون فيهم، لأنهم ليسوا قريشيين، ومعلوم أنَّ أحد شروط انعقادها القريشيَّة، وفق حديث نبوي مشهور، فظهرت رواية «التَّنازل»، أي تنازل آخر خلفاء بني العباس المتوكل الثَّالث (ت 1543)، وكان مقره القاهرة، لسليم الأول (ت 1526)، عند احتلاله مصر والانتصار على المماليك الشَّراكسة فيها (سنة: 1517)، لكن بعد البحث في تواريخ تلك الفترة كافة، لم يظهر خبرٌ واحدٌ عن هذا التَّنازل، ولم يظهر اسم «الخلافة» ولا لقب خليفة لسلطان من سلاطين آل عثمان، حتى سلطنة عبدالحميد الثّاني، فظهر اسم الخلافة في أول دستور عثماني (1879)، في مادتين مِن مواده، ومِن ذلك التَّاريخ بدأ الحديث عن خلافة عثمانيَّة.
على ضوء ذلك نشط الإسلام السّياسي السُّني ممثلاً بالإخوان المسلمين، والفرع الذي انشق عنهم حزب «التَّحرير»، فصار الاندفاع لإعادة الخلافة الإسلاميَّة. من الفائدة التَّذكير بحركة كانت نشأتها لها علاقة بضعف الدَّولة العثمانيَّة، ويمكن اعتبارها هي رائدة الإسلام السِّياسي، وأن الإخوان المسلمين قاموا بتقليدها بالاسم وبالتنظيم، ألا وهي الحركة السَّنوسيَّة، لكنها لم تواصل نشاطها، وتحولت إلى طريقة صوفيَّة، باتت لا تهتم بالسّياسة، لذا ملأ الإخوان الفراغ. ظهرت طلائعها الأولى كطريقة صوفية، مختلفة عن بقية الطُّرق، بمكة (1837) حيث درس مؤسسها محمد بن علي السَّنُوسي (1778-1859)، ثم بليبيا (1843)، وكان دافع ابن السَّنُوسي لتأسيسها ضعف الدَّولة العثمانيَّة، واتخاذها طريقاً آخر غير ما يتمناه السَّنُوسي للخلافة الإسلاميَّة، ثم انفصال محمد علي باشا (ت 1848) بمصر عن الدَّولة العثمانيَّة، واتخاذه طريق التمدن في بناء مصر، ونسج علاقات خاصة بالغرب.
عُرفت الحركة السَّنُوسيَّة بالإخوان السَّنُوسيين وهو اسمها الرَّسمي، عملت على تنظيم القبائل الصَّحراويّة بليبيا، وجعلت لكل مدينة تنجح الدَّعوة بها زاوية، فسعت أن تكون عالمية حيث يوجد الإسلام، وأخذت على عاتقها دعوة القبائل غير الدِّينية الإفريقية، أو التي عُرفت بالوثنيَّة، إلى الإسلام، ثم وقفت حركة الإخوان السَّنُوسيين ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا، وبرز أحد رموزها الكبار في ذلك الجهاد وهو عمر المختار (أعدم: 1931)، استمرت الحركة عبر الأجيال حتى كان أول وآخر ملك ليبي مِن السَّنوسيين.
عندما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين تأسيسها بمصر (آذار/ مارس 1928)، كانت الجماعة السُّنوسيَّة قد غزت العديد مِن البلدان الإسلاميَّة، عبر تأسيس الزَّوايا على طريقتها الصّوفيَّة، وكان مركز إرشادها زاوية الجغبوب بليبيا، فجاء تنظيم الإخوان المسلمين مقلداً لتلك الحركة بالاسم والتنظيم أيضاً، والدَّافع كان واحداً، وهو في حالة الإخوان السَّنُوسيين ضعف الدَّولة العثمانيَّة، وعدم قدرتها على تمثيل وحدة المسلمين في خلافة إسلاميَّة، أما في حالة الإخوان المسلمين فهو سقوط الدَّولة العثمانيَّة، وإعلان الدولة التُّركيَّة المدنية، فجاء تنظيم الإخوان لسد الفراغ في الدَّعوة لقيام الخلافة، وهذا الهدف ما زال قائماً حتى يومنا هذا، حيث وجدوا برجب طيب أردوغان شخصية الخليفة، فهو ينتمي إلى التَّنظيم الإخواني وحزبه يحكم تركيا حيث كانت داراً للدولة العثمانية.
أما عن الاسم فيقول منشئ الجماعة حسن البنا (اغتيل: 1949) إن اسم جماعته «الإخوان المسلمون» جاء «بغتةً» (البنا، الدَّعوة والدَّاعية، ص110). لكنَّ، يغلب على الظَّن، أن تسمية «الإخوان المسلمون» لم تكن بغتةً ولا مصادفة، مثلما قال مؤسسهم، إنما على الغالب أنَّ التّسميَّة جاءت للتعمية على الإخوان السُّنوسيين، بعد أخذ الاسم منها، لأن الأخيرة كانت حركة واسعة لها أهداف دينية سياسية، وتتطلع إلى كيان إسلامي دولي، ولها وسائل عسكرية أيضاً، وقوة التّنظيم عبر الزَّوايا الصّوفيَّة، تلك الزوايا التي أنتجت حسن البنا نفسه، قبل أنّ يعلن تنظيمه السِّياسي ونظام البيعة له. بل إنَّ أسلوب التَّنظيم جاء واحداً، لكنِّ بدلاً عن «الزَّاوية» لدى السَّنُوسيين أصبحت «الشّعبة» عند «الإخوان المسلمين».
فاعتبر نهاية الخلافة بسقوط آل عثمان، وليس منذ سقوطها ببغداد (1258م)، وهذا هو آخر العهد بها وما تولاه أمراء مِن بني العباس بمصر، في فترة المماليك، ظل شكلياً وليس له أهمية فعلية، والسبب واضح أن الدعوة إلى إحياء الخلافة من سقوطها ببغداد لا يبرر عملياً ولا يُنشط الدَّعوة لها، بعد مرور سبعة قرون، مثلما يكون المبرر أكثر تأثيراً بعد سنوات على سقوطها، وليس قروناً.
نشط الإخوان المسلمون، بعد استلام «حزب العدالة والتَّنمية» الإخواني السُّلطة بتركيا، وأصبح رئيسه رجب طيب أردوغان رئيساً للجمهوريَّة التُّركية، وبهذا لاحت في الأفق الآمال بإعادة الخلافة مِن تركيا، مقابل وجود الإمامة بإيران، بما هو أكثر مِما كانت عليه في العهد الصَّفوي (1501-1723)، أي إنَّ نائب الإمام المعصوم صار شاهاً، وليس وجوده مع الشَّاه ممثلاً للسُلطة الدِّينيّة، مثلما كان حال الفقهاء مع ملوك الصَّفويين. فأثيرت مِن جديد مسألة تبرير الخلافة للأتراك، لأنَّ القفز على أُصول الخلافة سيضعهم في إشكال مع شرعها الذي بُني على حديث نبوي، وهو اشتراط القُريشيَّة بالخليفة.
لهذا أخذ قادة مِن الإخوان يشيرون إلى أردوغان بسلطان المسلمين، وقادة المسلمين اليوم، بطبيعة الحال يصعب عليهم مناداته بالخليفة أو أن يُنصَّب خليفةً، مِن دون أن تتهيأ رقعة جغرافيَّة تضم عدة بلدان. لذا نشط الحماس لتلك الدَّعوة بعد ما أسفر عنه الرَّبيع العربي (2011-2012)، من حوادث، مثل استلام الإخوان المسلمون لرئاسة الجمهوريَّة بمصر، وتقدموا نحوها بتونس، وحاولوا عليها بليبيا، مع وجود سلطتهم الإسلامية بالسودان، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الخلافة، وإذا توفرت تلك الإمكانية، لم يبق غير إعلان دولة الخلافة.
مِن جانبه قام الرَّئيس التُّركي بإجراءات تذكير المجتمع التُّركي بعظمة العثمانيين؛ فربَّما كان يفكر بإعلان الاستفتاء لإعادة الخلافة، ظهر بين صفين مِن الحرس العثماني، وأخذ يتحدث عن الإمبراطوريّة الشَّاسعة، وأرسل قوات إلى ليبيا تحت مبرر الامتداد العثماني هناك، ثم قام بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، عودة إلى أمجاد محمد الفاتح، عندما حوّل الكنيسة الكبرى إلى مسجدٍ، مخالفاً بذلك ما فعله عمر بن الخطاب مع كنيسة القيامة بالقدس.
مقابل السَّعي إلى الخلافة التُّركية، لتحقيقها في العهد التُّركي الإخواني، ظهرت الولاية الإيرانيَّة، بعد نجاح الثَّورة، وأسلمتها مِن قِبل رجال الدِّين، فظهرت «ولاية الفقيه»، المبنية على فكرة الإمام الغائب، المهدي المنتظر والمعروف بتسمية «صاحب الزمان». ظهرت جماعات عديدة، عبر التَّاريخ، مشيدة ثورتها ثم سلطتها على أساس فكرة المهدي المنتظر، ومنها نجحت ببناء دولة كالدولة الفاطميَّة بمصر وقبلها العبيدية بتونس، وهي ضمن الفرقة الإسماعيلية، ونذكر مِن التَّاريخ القريب ظهور الحركة المهدية بالسُّودان، بعد أن أعلن محمد أحمد المهدي (ت 1885)، أنَّه المهدي المنتظر، وأنَّه مِن سلالة النَّبي محمد، وعُرف أتباعه بـ«أنصار الله»، وبعدها ظهر للحركة حزب عنوانه «الأمة القومي السُّوداني»، تأسس 1945، أسسه الصّديق بن عبدالرّحمن المهدي، والد الصَّادق المهدي (ت 2020)، والذي تولى رئاسة الحزب وزعامة أنصار الله والحركة المهديَّة. أقامت المهديّة دولة بالسُّودان لردح مِن الزَّمان، وقد أشير إلى مؤسسها بأنَّه «صاحب الزَّمان»، ومع أنه مِن أهل السُّنَّة، لكن تجربته الصُّوفيَّة قادته إلى اتخاذ ادعاء أنَّه المهدي المنتظر.
كان كتاب «ويسألونك عن المهديَّة» لسليل المهدي المنتظر السُّوداني الصَّادق المهدي (بيروت: 1975) كونه مصدراً مِن داخلها، اعتبر فيه جده الأعلى «صاحب الزَّمان»، ومعلوم ما للعبارة مِن تأثير، أن يكون الزَّمان مُلكاً لإنسان، وهذا لقب المهدي المنتظر عند الشّيعة الإماميَّة، وربَّما استعارته الصُّوفيَّة من الإماميَّة، تناول كتاب «يسألونك…» الحكم الإسلامي الأول في العهد الرّاشدي، ثم الحركات الفكرية، وباباً خاصاً بالمهدوية في الإسلام، ثم يطنب عند مهدية السُّودان، ومهديّة السُّودان ليست بعيدة عن الصُّوفية، فقد أعجب مؤسسها بالسَّنُوسِيَّةِ، كونها ألفت بين التَّصوف والسِّياسة (الصَّاوي وجادين، الثَّورة المهديَّة).
أما في عصر الصَّادق فتحول الإعجاب إلى الخمينية، نسبة إلى روح الله الخميني (تـ: 1989)، هذا ما يُفهم مِن خطابه في الذكرى الرَّابعة والعشرين على وفاة الخميني (2013). يرى الصَّادق المهدي: «كان النَّاس يهمسون بالتَّطلع للخلاص على يد صاحب الزَّمان، المحرك الأول للثَّورة، وهي المعتقد الدِّيني وشخصية المهدي» (يسألونك عن المهديَّة). لابد بصاحب الزَّمان الانتساب لآل محمد، حجازياً كان أو أفريقياً، فتأثراً بمهدي السُّودان ظهر مهديون أفارقة، نالوا التَّكليف بنيابة النُّبوة بمنام أو حلم يقظة، وكلهم يعلنون الحاكميَّة الإلهيَّة.
ليست هناك فكرة خصبة، استُغلت في السِّياسة والثَّورة مثل «المهديَّة»، صارت عقيدة دينيَّة يُكفر ناكرها، مع أنَّ القرآن لم يشر إليها، مثلما لم يشر إلى السُّلطة، وكلّ ما استحضره الإسلاميون، استنباط بعيد عمَّا قصدوه بالخلافة والوِلَايَة.
يعتقد المهدي في «يسألونك عن المهديَّة»، وكأنه بعنوان كتابه قرنها بالرُّوح لرفعتها، أنَّ فكرة جده الأعلى مازالت راسخةً، قال: «إنَّ دعوة المهدي لم تمت… بل عاشت في الضَّمائر وتحصنت في القلوب». لكنَّ الدَّعوة التي تسلمت الحُكم، واستمرت عملاً سياسياً، وصار حزبها حكومةً أكثر مِن مرة، وعندها «أنصار الله»، ولنحو قرن ونصف، لم تعمل شيئاً، إنما ظلت لفترات تُمارس العنف ضد الخصوم، وتبنت التَّترس بالحاكميَّة الإلهيَّة عن طريق فكرة «صاحب الزَّمان»!
لم تكن نشأة المهديَّة السُّودانيَّة بمنأى عن التَّجربة الفاطمية أو العبيدية؛ فبفكرة صاحب الزَّمان ذاتها تأسست دولة ملكت لأكثر مِن مئتي عام، وبالفكرة نفسها تأسست دول للقرامطة، ولكي يحتفظ مؤسسها أبو سعيد الجنابي (اغتيل: 303 هجرية) بالملك لورثته، أوصى بتهيئة حصانٍ عند قبره، قائلاً: «حين أعود ولا تعرفونني، اضربوا رقبتي بسيفي، فإذا كنت أنا حييت في الحال» (خسرو، سفر نامة)، فظل هو «صاحب الزَّمان» المنتظر. كان القاضي عياض اليحصبي (قتل: 544 هجرية) أحد ضحايا «صاحب الزَّمان» بمراكش، عندما همس بعدم مهدويّة وعصمة ابن تومرت الموحدي (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء). قتله خلفاء ابن تومرت، لأنّ حكمهم مرتبط بالفكرة.
كانت بداية الفكرة إسلاميّاً بالرِّضا مِن آل محمد، وهو محمد النَّفس الزَّكيَّة (قُتل: 145هجرية)، ثم تسلح بها محمد بن عبدالله المهدي بن المنصور (تـ: 169هجرية) ليقطع الطَّريق على مِن ينوي الثَّورة بها عليه، وقد تبناها تطبيقاً لحديث «اسمه على اسمي…» (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).
وفق فكرة المهدي المنتظر أعد الخميني ولاية الفقيه في مجموعة دروس نُشرت في كتاب «الحكومة الإسلاميَّة»، وبما أن الإمامة عند الشّيعة محسومة لآل علي بن أبي طالب وهم مِن قريش، فلم يبحثوا في شرطها الذي أقره الفكر السُّني. بدأنا بالبحث، في هذا الموضوع، مِن الاثني عشر إماماً، وحديث الإمامة، وكان السُّؤال كيف يتم الاطمئنان لولاية بنيت على روايات مختلف عليها، بين فقهاء الشِّيعة أنفسهم، ثم عرجنا على بدايات فكرة «ولاية الفقيه»، التي وضعت في الدُّستور الإيراني.
اعتمدت الولاية، عند الخميني على ما طرحه أحمد النَّراقي، وكان قبله بأكثر مِن مئة عام، ومِن قبل طرحها علي بن عبدالعال الكركي، بثلاثة قرون قبل النَّراقي، على أن الفقهاء هم ورثة الأنبياء، وراثة العلم، وبالتَّالي الوراثة في السِّياسة، وعلى ذلك تكون شرعية الفقيه «المكتمل الشَّرائط»، وبهذا أصبح الحاكم المطلق بإيران، ثم هناك ما قد يُعرقل أن يكون الخميني الولي الفقيه، لأن الدُّستور الإيراني يشترط بالمناصب الكبرى، مثل رئاسة الجمهوريَّة أن يكون الرَّئيس إيراني الأصل والولادة، ومعلوم أنَّ الخميني ينحدر مِن أُصول هنديَّة كشميريَّة، والذي وصل إلى إيران هو جده أحمد، وظل يُلقب بالهندي! لتجنب هذا الإحراج لم يذكر الدُّستور الإيراني إيرانيَّة الولي الفقيه، لكنّ الشَّرط موجود ضمناً.
بطبيعة الحال، لم يعترض أحد على موقع الخميني كمرشد للثورة والدَّولة، لأنَّه قائد الثَّورة ومؤسس الجمهوريَّة الإسلاميَّة، إلى جانب أنَّ المذهب عابرٌ للحدود الجغرافيَّة، لكنّ ذلك بحدود الفقه والعقيدة، أمَّا السِّياسة فشأنها آخر، والإسلاميون، بشكل عام، يتجاوزون تلك الحدود، وهذا ما يجعل إسلاميين عراقيين ولبنانيين شيعة لا يرون حرجاً عندما يعتبرون أنفسهم تحت قيادة الخميني ثم الخامنئي، وهم بالخضوع لهذه الولاية يأتون بعذر قيادة الأمة الإسلاميَّة وليس الوطن، أمَّا عند الإخوان وبقية الإسلام السِّياسي السُّنّي يتخذون العذر نفسه، لا يتعلق الأمر بالدَّولة الوطنية بقدر ما يتعلق بقيادة الأمة، والأمل بالعودة إلى الخلافة بخليفة تركي، لا تنطبق عليه شرط القريشية، لذا صار التَّركيز على فكرة تنازل المتوكل الثَّالث العباسي عن الخلافة لسليم الأول التُّركي، وهذا يسري على أردوغان أيضاً في حالة تنصيبه خليفةً، وهذا ما يُفسره التَّنظيم الدُّولي لإخوان المسلمين، تنظيم عابر للأوطان والقارات.
كانت دراسة موضوع ولاية الفقيه، أو الولاية المبنية على اختلاف الرّوايات، وتطبيقها منذ (1979) بإيران، وما تهيمن عليه مِن تنظيمات خارج الحدود، يحتاج إلى البحث في حياة الخميني الشَّخصية والسِّياسيَّة، مِن مغادرة إيران إلى تركيا (1964) ثم وصوله النَّجف (1965)، فظهر أنَّ الرَّجل قد ولد كإمام وآية الله العظمى بقرية «نوفل لوشاتو» الفرنسيَّة، تلك القرية التي هُيئت له بلوازم الاتصال والدّعاية، والفريق الذي يُخطط ويترجم وينشر خطاباته ومقابلاته، ومنها ركب الطَّائرة إلى طهران، ليحل الشَّاه المعمم محل الشَّاه المتوج. ظهر خلال هذه الفترة أنَّ الخميني ينحدر مِن عائلة مجاهدة، وأنَّ والده أعدم مِن قِبل رضا الشَّاه، ولكن الذين اختلقوا هذه الحادثة لم ينظروا في التقويم، كي يعرفوا أن رضا شاه في سنة (1902) التي قُتل فيها مصطفى والد الخميني، لم يكن سوى ضابطٍ في الجيش القاجاري، فقد توج شاهاً على إيران (1925)، أي بعد ثلاث وعشرين سنةً.
كان نظام شاه إيران، حسب دستوره، لا يسمح بإعدام المجتهد أو الحاصل على لقب آية الله، وهذه المادة هي التي أعفت الخميني مِن الإعدام، بعد أن قام المرجع الأكبر محمد كاظم شريعتمداري (تـ: 1985) بمنحه شهادة الاجتهاد، وبهذا حماه مِن الإعدام، لكنَّ هذه المادة ليس لها ذكر في دستور الجمهورية الإسلاميَّة، وكان جزاء شريعتمداري أنْ يُعتقل في داره ويمنع مِن العلاج، وقد كتب تلميذه آية الله رضا الصّدر معاناة هذا المرجع ومعاناته هو شخصياً في كتابه تحت عنوان «في سجن ولاية الفقيه»، وقد حرموا الصَّدر مِن تنفيذ وصية شريعتمداري في الصَّلاة عليه، وخالفوا وصيته في مكان دفنه، ومازال قبره مجهولاً.
في هذا الموضوع، لحقنا الفصل الخاص بحياة وصعود الخميني، فقرة مهمة في مقابلة بين ما حصل لمحمد باقر الصَّدر (أعدم: 1980) مِن قِبل النِّظام العراقي، وما حصل لشريعتمداري مِن قِبل النِّظام الإيراني، كي يتضح أنَّ النِّظامين في مستوى واحد، بما يخص المعارضين، أو المختلفين، فإذا كان النِّظام العراقي يُظهر المعارضين على شاشة التّلفزيون وهم يدلون باعترافات، أو إعلان توبة، فالنِّظام الإيراني فعل ذلك مع كبار المراجع، الذين لو كان شاه إيران مَسّهم بكلمة لقلب الخميني وأتباعه الدّنيا ولم يقعدوها ضده.
كان محمد باقر الصَّدر متحمساً للثورة الإيرانيَّة، وللخميني ومرجعيته، حتى سماها بالمرجعيَّة الرَّشيدة، وأوصى في رسالة اطلعنا عليها بخط يده بالذَّوبان في هذه المرجعية، ووفق الحماس الفائق عنده للثورة الإيرانيَّة، لا نظنه سيعترض على تصديرها إلى العراق، كجماعات مسلحة مثلما يحدث اليوم، لأنه الطَّريق الوحيد في عملية التَّصدير، تصدير أي ثورة. اعتمدنا على مصادر مهمة، منها كان مؤلفوها مع الخميني تماماً إلى درجة التَّقديس، وهذا ما يطمئن له في المعلومات، ومقابلتها بالكتب التي ضده، ظهر أن من كتب تحت تأثير تقديسه ومَن كتب تحت تأثير معارضته، لم تختلف المعلومات نفسها، إلا باختلاف الموقف منها، مثلاً في قضية الإعدامات التي طالت المؤيدين للثورة، وعزلته بالنَّجف واتهامه بالشيوعيَّة، والعناية الفائقة له في قرية «نوفل لوشاتو»، وما حصل بعد الثَّورة، فهي نفسها عند مؤيديه ومعارضيه على حدٍ سواء، مع اختلاف الموقف منها.
في ما يخص الفصل الأول «الخلافة التركية المدعاة»، اعتمدنا على مصادر تلك الفترة وكان أهمها: «بدائع الزُّهور في وقائع الدُّهور» لمحمد بن أحمد الحنفي المعروف بابن إياس (تـ: 1523)، وكان حيًّا عند غزو سليم الأول لمصر. وتاريخ: «مفاكهة الخلان في حوادث الزَّمان» لابن طولون، شمس الدِّين محمد عليّ الحنفي (تـ: 1546م). وتاريخ «أخبار الدُّول وآثار الأُول»، لأحمد بن يوسف القرماني (تـ: 1610). وتاريخ «سمط النُّجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي» لعبدالملك بن حُسين العصامي (تـ: 1699)، هذه التَّواريخ وغيرها لم تحفل بكلمة واحدة تفيد أن آل عثمان كانوا خلفاء، ولا في التَّنازل عن الخلافة لهم.
أما الكتب التي اُعتمدت في الفصل الثَّاني، والخاص بالولاية الإيرانيَّة فكان أبرزها كتاب آية الله رضا الصدر (تـ: 1994) «في سجن ولاية الفقيه»، وكتاب آية الله الرّضا البُرقعي (تـ: 1992) «سوانح الأيام»، وكتاب موسى الموسوي الأصفهاني «الثَّورة البائسة»، هؤلاء الثَّلاثة كانوا مِن الوسط الدِّيني، فثلاثتهم مِن طبقة رجال الدِّين غير المتفقين مع «ولاية الفقيه» كنظرية في الحكم، والأول الأقرب إلى شريعتمداري، والاثنان الآخران الأقرب إلى الخميني ثم اختلفا معه بعد أنْ صار مرشداً للدولة. سُجِنَ الصَّدر والبُرقعي، وكان الموسوي قد صاحب الخميني قبل الثَّورة وبعدها، غير أنَّه ظهر بنتيجةٍ ملخصها أنَّ الخميني بعد الثَّورة ليس هو نفسه قبلها، أي اختلاف الخميني الحاكم عن الخميني المعارض.
يُعدّ كتاب فاطمة طباطبائي، زوجة نجل الخميني ويده اليمنى بعد وفاة شقيقه الأكبر مصطفى الخميني بالنَّجف، «ذكرياتي» مِن أهم الكتب في دقائق حياة الخميني بالنّجف، نقرأ فيه عن دور الشَّخصيات الأولى التي رافقت الخميني من النَّجف إلى فرنسا ثم إلى إيران، وما هي مصائرهم، وعن وفاة نجل الخميني مصطفى، ودقائق ما كان يجري داخل البيت، وعن العلاقة بخالها موسى الصَّدر، وتأسيس الجماعات المسلحة داخل لبنان، ودور مصطفى جمران(قُتل: 1981) بتأسيس «أفواج المقاومة اللبنانيَّة (أمل) المسلحة، وأول قائد لها، ثم أصبح بعد الثَّورة الإيرانيّة وزيراً للدفاع، وقُتل في الحرب العراقية الإيرانيَّة، كان من المتحمسين لاستمرار الحرب وإطالة أمدها(). أتت الكاتبة بمعلومات وليس بمواقف، فهي تعد الخميني إماماً، وشخصية مقدسة بالنِّسبة لها، وكانت تقلده فقهياً، بعد أن كانت تُقلد آية الله محسن الحكيم (تـ: 1970). غير أنّها بطبيعة الحال تفسر كلّ شيء لصالح الخميني، فلم تذكر شيئاً عن عذابات خالها رضا الصَّدر في سجن الإمام.
أما المصدر الآخر، وهو الكتاب المهم عن بدايات الخميني وصعوده حتَّى تسلمه للحكم، صنفه أحد الشَّخصيات السِّياسيَّة الإيرانيَّة من العهد السَّابق، كان وزيراً للإسكان ووزيراً للعلوم ثم رئيساً لجامعة طهران في عهد الشَّاه. كان كتاب الأكاديمي والسِّياسي هوشنك نهاوندي «الخميني في فرنسا»، المترجم عن الفرنسيَّة، بحثاً موثقاً، كشف السيرة الذَّاتيَّة الجديدة للخميني، التي أخذت تتداول بعد وصوله إلى «نوفل لوشاتو» بباريس، وبدأت بحياة جده ووالده، لتكون مناسبة لزعيم إيران الجديد، كتب بدقة عمَّا جرى في «نوفل لوشاتو»، وعن الدَّور الفرنسي على وجه الخصوص.
إنَّ ما يربط بين «الخلافة التُّركيّة» و«الولاية الإيرانيَّة» هي فكرة الحاكميَّة، وتلك عماد قوام الإسلام السّياسي، السُّني والشِّيعي، فعلى هذه العقيدة شيدت الأحزاب الدِّينيَّة وجودها، مع اختلاف الشَّكل والتَّطبيق، أمَّا الجوهر فهو بلا شك واحد. تعني الحاكميَّة التي تحدث بها أبو الأعلى المودودي (ت 1979) أنَّ الحاكم هو الله، ومَن يُدير الحُكم هو السلطة التنفيذيَّة التي تنفذ أوامر الله، وأن الحاكم الفعلي على الحقيقَّة هو الله لا غيره، وكلّ هذا أورده أبو الأعلى المودودي(تـ: 1979) في كتابه «الحكومة الإسلاميَّة». أما حاكميَّة الخميني ففيها أيضاً أنَّ الله هو الحاكم، وهذا مثبت في الدُّستور «الإيمان بالله الأحد لا إله إلا الله، وتفرده بالحاكمية والتَّشريع، ولزوم التَّسليم لأمره» (المادة الثَّانية)، وقد أثبت الخميني تلك الحاكميَّة في كتابه، الذي حمل عنوان كتاب المودودي نفسه «الحكومة الإسلاميَّة».
لكنَّ أين الاختلاف؟!
إنَّ الحاكم في الفكر السُّني مَن ينوب عن الله مباشرة، عبر أوامر وتشريع الله، وتطبيق الشَّريعة بحذافيرها، فالحاكم على الحقيقة هو الله، أي «أنَّ الله هو الحاكم المطلق، وله وحده السُّلطة المطلقة»(). أما في الفكر الشِّيعي فيكون الحاكم نائباً للإمام المعصوم وهو المهدي المنتظر، الحيّ الغائب حسب العقيدة الإماميَّة، فهو نائب الله، والفقيه يقوم بدوره وكيلاً في فترة الغياب كتمهيد لظهوره().
عموماً، فالنَّتيجة واحدة في الحاكميَّة السّنيَّة والحاكميَّة الشّيعية مع اختلاف الشّكل والوسيلة، وبهذا نكون وصلنا إلى النتيجة التي حاولنا في هذا الكُتيب الوصول لها، وهي وحدة الحاكميَّة، والثاني أن الخلافة والولاية كليهما يصلحان لحكم إمبراطوري، انتهى زمنه، ولا يصلح للدولة الوطنيَّة، فالخلافة المتمثل أملها الآن برجب طيب أردوغان لا تقف عند الحدود التُّركيَّة، بل تعمل على التَّمهيد لقيامها عبر فروع الإخوان المسلمين كافة، والتَّنظيم الدُّولي شاهد على هذا التَّدويل.
أمَّا الولاية الإيرانيَّة المتمثلة بحاكميَّة الولي الفقيه فتعتبر إيران نقطة انطلاق، وعاصمة تحرك، نفذ من اليوم الأول لانتصار الثَّورة الإسلاميَّة بإيران مبدأ تصدير الثَّورة، إلى حيث يُقيم الشّيعة، والعمل على خلق مجتمعات شيعيَّة جديدة، كي تكون ركيزة لتلك الولايَّة، والعمل على عسكرة الشّيعة في ميليشيات وأحزاب الله، ومعلوم أن «حزب الله» بنسخته الشّيعية جرى التفكير بها، وكان الخميني لا يزال بقرية «نوفل لوشاتو» بباريس، فقد كان عنوان هذا الحزب يتداول، حتى إنَّ صحفياً أجنبياً سأل الخميني عن ماهيته، فأجابه بالقول: «إنَّ كُلَّ مسلمٍ يقبل بالموازين والقوانين الإسلاميَّة، ويعمل بها، فهو مِن أعضاء حزب الله، وإن خط سير هذا الحزب يُحدده القرآن والإسلام»(). بيد أنَّ هذا التعريف العام، تحول إلى ميليشيا وقوة داخل إيران وتحت عنوان «حزب الله»، الذي أنيط به مهمة أسلمة المجتمع، وتطبيق القواعد الإسلاميَّة عليه، ثم ظهر «حزب الله اللبناني» كتنظيم عقيدته ولاية الفقيه الإيرانيَّة، الذي يعتبر قائده حسن نصر الله أن الحزب جزء مِن إيران، وهدفه قيام دولة إسلامية يحكمها الإمام المعصوم (المهدي المنتظر) ونائبه الولي الفقيه الإمام الخميني، وعندما سُئل نصر الله أمين عام حزب الله عن الأعلم في أحوال لبنان السّياسيَّة، قال: الإمام الخميني لأنه إمام الأُمة()، وهذا قول صريح وصادق عن حاكميَّة ولاية الفقيه أنها ليس لها حدود جغرافيّة، وإنما حدودها حدود الأُمة الإسلاميَّة.
وردت مفردة «حزب» في القرآن ست مرات، وبصيغة الجمع (أحزاب) تسع مرات، وبعبارة «حزبه» مرة واحدة. هناك سورة اسمها «الأحزاب». كما أتت التَّسمية نصاً بالإشارة إلى حزب الله: «أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (المجادلة: 22)، و«وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (المائدة: 56). وأتت بالسِّلب أيضاً: «أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (المجادلة: 19). غير أنَّ هذه ألفاظ لا تنطوي على معنى الحزب، الذي أمينه العام فلان، أو ولي فقيهه فلان، ولا عقيدة هذا الحزب محصورة على ناس دون غيرها.
ظهر قبل الإسلام تسمية «أهل الله»، ومنها برزت ظاهرة التَّطرف الديني، قبل الإسلام، المحصور بما عُرف بـ «الحُمْس». جاء في الرِّواية: «لما أنْ أهلك أُبرهة الحبشي صاحب الفيل، وسلّط عليه الطَّير الأبابيل، عَظمت جميع العرب قريشاً وأهل مكة، وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم، فازدادوا في تعظيم الحرم، والمشاعر الحرام والشَّهر الحرام ووقَّرُوها، ورأوا أن دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله، وولاة البيت الحرام، وساكنوا حرمه وقُطانه، فليس لأحد مِن العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف العرب لأحدٍ مثلما تعرف لنا. فابتدعوا عند ذلك أحداثاً في دينهم أداروها بينهم، فقالوا: لا تعظموا شيئاً مِن الحلِ كما تعظمون الحرم»، حسب محمد بن عبدالله الأزرقي (ت 250هـ) في كتابه «أخبار مكة وما جاء فيها مِن آثار»، ومحمد بن عبدالله الفاكهي (ت 272هـ) في تاريخه «أخبار مكة مِن قديم الدَّهر وحديثه».
مِن هنا نأتي على محاولة توظيف «اسم الله» سياسياً وحزبيَّاً بإضافة «أهل» «أبناء»، و«حزب»، «آية الله»، وإذا كان التوظيف الأول اجتماعياً لإعلاء درجة قُريش على غيرها، ففي «حزب الله» توظيف الدِّين في الشّأن السِّياسي. فليس أكثر إيغالاً في التَّوظيف مِن إطلاق اسم الله على حزب بكامله، ليكون اسمه الرَّسمي «حزب الله»، وأن يؤتى بالآية شعاراً «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»! مع أن ليس مِن حق أحد مِن عباده، ولا مختلف الأديان والمذاهب، أن يحتكر هذا الاسم لحزبه، إلا إذا أراد أن يُقابل حزبه بما أشارت إليه الآية: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (سورة المجادلة، الآية، 19).
لعلَّ أول مَن اتخذ اسماً لحزبه «حزب الله» هو الشَّاعر محمد محمود الزُّبيري (اغتيل 1965) باليمن، وذلك إبان الصِّراع بين الملكيين والجمهوريين باليمن الشِّمالية، عقب ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 اليمنية بصنعاء، وفق ما ورد عند عبدالعزيز قائد المسعودي في «الزُّبيري ومشروع حزب الله». قال أحد المؤسسين في لحظة التعبير عن الحزب: «وفي الطَّريق … قال الزُّبيري: سنفجر لهم قنبلة عظيمة ستكون شديدة الوقع عليهم، سنعلن إنشاء حزب نسميه حزب الله، وهم سيقولون ونحن من حزب الله» (المصدر نفسه). وتأمل العبارة: «سنفجر لهم قنبلة عظيمة…»! هذه القنبلة هي التوظيف السِّياسي بعينه.
غير أن التَّسمية غدت مرتبطة بحزب الله اللبناني، الذي تأسس عام 1982، في حياة مرشد الثورة الإسلامية بإيران روح الله الخميني (ت 1989)، بالتعاون مع سورية، حيث انطلق من هناك، وهو حزب عقائدي يركن إلى فكرة ولاية الفقيه بنسختها الإيرانية، حتى أصبح اسم الحزب محتكراً للتابعية الإيرانية. قبل ذلك ظهرت تسمية حزب الله بإيران، في بداية الثَّورة، وهو عبارة عن جماعات، مهمتها ضبط المجتمع والدِّفاع عن الثَّورة، بالحضور في كلّ مكان، ولهم حريَّة التَّصرف، كفرض الحجاب على النّساء، وإشاعة الأجواء الدِّينية.
بالتزامن مع وجود حزب الله اللبناني ظهر حزب الله الكردي، بزعامة محمد خالد بن أحمد البارزاني (ت 2015)، تأسس تحت هذا العنوان ودخل ضمن تكوينات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، والأخير كان قد تأسس (1982) بإشراف وإمداد إيراني، وكان أول أمين عام له هاشمي الشاهرودي، الذي تربطه صلة مع حزب الدَّعوة الإسلامية، وصار في ما بعد رئيساً للسلطة القضائية بإيران. قيل إن مؤسس حزب الله الكردي أو «حزب الله في كردستان»، ينتمي إلى الاتجاه الخورشيدي، نسبة إلى خورشيد (قُتل 1983) ابن أخت الشيخ أحمد البارزاني (ت 1969)، في الطريقة البارزانية، والتي هي جزء من الطريقة الكبرى النقشبندية، وتأخذ عليهم السلفية أن لهم طريقتهم في التدين.
قبل ذلك، تأسس حزب الله التركي (1979)، وبتأثير الثورة الإيرانية أيضاً، واتخذ لمواجهة حزب العمال الكردي اليساري، في ما بعد، وصار قريباً من تيار الإخوان المسلمين بزعامة رجب طيب أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية». نشأ حزب الله التركي بمدينة طمان من إقليم كردستان تركيا، ولأنه حزب الله وشعاره «الإسلام ضد الكفر» أطلق على حزب العمال الكردي التسمية المناقضة أي «حزب الشَّيطان»، مثلما ورد في الآيات أعلاه، انشق هذا الحزب إلى جماعتين (بوابة الحركات الإسلامية).
ما عدا حزب الله اليمني، الذي ظهر قبل الثورة الإيرانية بنحو سبعة عشر عاماً، كلّ أحزاب الله التي ظهرت بعد الثَّورة الإيرانيَّة، إذا لم تكن ملحقة بإيران فهي مؤيدة لسياستها، حتَّى أصبح الاسم محصوراً بين الشِّيعة السِّياسيَّة، بينما كانت بدايته سُنية متصلة بالإخوان المسلمين، مثلما تقدم.
في الحال العراقيَّة، تشكل أكثر مِن حزب ومنظمة باسم «الله»، منها حزب الله، ومنها «كتائب حزب الله»، وعقيدة الكتائب هي عقيدة الدولة الإيرانية وحزب الله اللبناني نفسها «ولاية الفقيه»، ويتشددون فيها، واختارت الحركة أن تكون ولادة موقعها الإلكتروني الجديد في يوم «الغدير»، وهو اليوم الذي يعتقد الشِّيعة أن أعلن فيه النَّبي الوصية لعلي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ)، في 18 من ذي الحجة عام 11هـ، خليفة مِن بعده.
Back