Description
درس محمد الحدّاد -أكاديمي وباحث تونسي، وأستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة بتونس- ما أثير من جدل حول كتاب «الحريات العامة في الدولة الإسلامية » لراشد الغنوشي مفنّدًا اعتباره جزءًا من الحركة الدستورية التونسية التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر. رافضًا التسليم به ضمن سياقات التفكير الدستوري التونسي بالمعنى الدقيق والعلمي لهذه العبارة. ويرى الباحث أن المرجعية التونسية غائبة في هذا الكتاب، أما المرجعية السائدة فيه، فيتبوّأ أبو الأعلى المودودي، من الناحية النظرية، المكانة الأولى في الأثر، يتلوه سيل من الشخصيات المنتمية لتيار الإسلام السياسي أو المتعاطفة معه.
يستنتج الباحث من هذه الدراسة في مرجعيات كتاب «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» أنّه يتنزّل في إطار المجادلات داخل حركات الإسلام السياسي والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهي مجادلات محورها تحديد أفضل الطرق للوصول إلى السلطة والمشاركة فيها والاحتفاظ بها. وقد دافع الغنوشي عن أطروحة مفادها أنّ الديمقراطية من بين هذه الطرق، وأنّ على حركات الإسلام السياسي أن تقبل بمراجعات جوهرية إذا أرادت أن تصل إلى السلطة، منها التفاعل الإيجابي، نظريا وعمليا، مع مصطلحات وتجارب من خارج الدائرة «الإسلامية» ومن أصول غربية وعلمانية، بعد القيام بعمليات التأصيل الضرورية لإعادة تنزيلها في المنظومة الإخوانية. وذلك في إطار رؤية عامة لا تعترف بأدنى تمييز بين المجالين السياسي والديني، بل تجعل السياسة في خدمة حركات الإسلام السياسي ودعاة احتكار التأويل الديني.
ولئن كانت أطروحة الغنوشي متقدّمة على الأطروحة التقليدية للحركات الإخوانية وعلى الموقف الرسمي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، من جهة أنه لم يطرح الديمقراطية كمجرد أداة، بل أقرّ في طبعة تونس بأهميتها المرجعية والفلسفية، فإن عمليات «التأصيل» قد أفرغت المفاهيم السياسية الحديثة من مضامينها العميقة، وجعلت البناء العام مترنّحا بين الوفاء لأفكار الروّاد، البنّا والمودودي وعودة وقطب، وأفكار ذات قيمة عملية أساساً، ناتجة عن فشل التجارب السابقة في الوصول إلى الحكم. وعليه، فإن القضية الرئيسة للأثر لم تكن البحث عن أفضل السبل للحكم الرشيد والنافع للشعوب، بل البحث عن أفضل السبل لتمكين حركات الإسلام السياسي من الحكم، وشتان بين المبحثين. لذلك لا تنجح هذه الحركات في إدارة الدولة، حتى في حال تمكّنها من السلطة، لأنها لا تصدر عن رؤية واضحة للدولة وبرامج في طرق تسييرها. وعلى هذا الأساس، وجد الباحث أن الكتاب يستمدّ أهميته من الجدل القائم داخل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين حول خطط الوصول إلى السلطة، ولا يستمدّ أهميته من العلاقة بالفكر الدستوري التونسي المتواصل منذ منتصف القرن التاسع عشر.
لم ينطلق الغنوشي من ذلك التراث الدستوري المتراكم أطروحات وتجارب، ومن باب أولى أنه لم يتفاعل مع كتابات كبار القانونيين الدستوريين في تونس، الذين درّسوا في كليات الحقوق ونشروا كتابات متميزة في الموضوع، كما بيّن الباحث أنّ حركة «النهضة» فضّلت بعد الثورة عدم التركيز على هذا الأثر في فترة إعداد دستور الجمهورية الثانية كي لا تلزم نفسها بموقف محدّد وتترك مجالاً واسعاً للمناورة، وتغيّر مواقفها حسب المصالح السياسية المباشرة التي يمكن لها أن تجنيها.