المرأة والمعرفة الدينية في الإسلام


     يتناول هذا الكتاب فاعلية النساء المسلمات وأدوارهن المُساهمة في العلوم الدينية الإسلامية على مدار ثلاثة عشر قرناً، دارساً نماذج نسائية كان لها إسهامات بارزة في المعرفة الدينية من علوم الحديث والفقه والإفتاء والتصوف. 

     سعت الأبحاث إلى إعادة النظر في المصادر التراثية من وجهة نظر تاريخية وتحليلية، فرصدت النشاط الديني النسائي في الحضارة الإسلامية إلى جانب الأدوار السياسية، مما يدعو إلى تعزيز الدعوات الحديثة لاستعادة مكانة المرأة وتمكينها في الميدان المعرفي الديني ومجالات أخرى.


تم النشر في: November 2018


front143

قائمة الفصول


# اسم الكتاب
1 السيدة عائشة بنت أبي بكر: المُحدِّثة والمُفسرة
2 رمزيّة زينب بنت عليّ في التراث الشيعيّ
3 دور المرأة في العلوم الدينية في العصرين الأموي والعباسي
4 التعليم السنّي في مصر الفاطمية: الأصوات النسائية
5 مسلمات في العصر الوسيط: الحضور الديني
6 إسماعيليتان في السلطة: ست المُلك الفاطمية والحرّة أروى الصُليحية اليمنية
7 المرأة في الدولة العثمانية: دراسة تاريخية واجتماعية
8 المرأة الصوفية بين الولاية الروحية والقيادة الدينية
9 المرأة الصوفية بعيون شرق غربية.. جهود آنا ماري شيمل
10 النساء والفقه: الفقيهات المنسيات في تاريخ الإسلام
11 أوقاف المرأة في الحضارة الإسلامية: الوقف العلمي
12 الشيخة فاطمة العوضـية.. شهيدة البحث الفقهي في القرن العشرين
13 Feminist Edges of the Qur’an:الكتاب

شرح الكتاب


ملخص بحوث العدد (143)

المرأة والمعرفة الدينية في الإسلام

نوفمبر (تشرين الثاني) 2018

يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه الشهري «المرأة والمعرفة الدينية في الإسلام» (الكتاب الثالث والأربعون بعد المئة، نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) فاعلية المسلمات وأدوارهن المُساهمة في العلوم الدينية الإسلامية على مدار ثلاثة عشر قرناً، واختار نماذج نسائية كان لها إسهامات بارزة في مجالات علوم الحديث والفقه والإفتاء والرقائق. لقد سعت الأبحاث إلى إعادة النظر في المصادر التراثية من وجهة نظر تاريخية وتحليلية فرصدت النشاط الديني النسائي في الحضارة الإسلامية إلى جانب الأدوار التشريعية والسياسية.

السيدة عائشة بنت أبي بكر: المُحدِّثة والمُفسرة

ترى الباحثة المغربية في القضايا النسائية في الإسلام: نادية الشرقاوي، أن شخصية السيدة عائشة بنت أبي بكر قامةٌ فقهية، ومحدثة وفقيهة، فرضت اسمها على الساحة لرمزيتها في الفكر الإسلامي، ولاقتحامها مجالات المعرفة الدينية في ذروة نشوء الدولة الإسلامية، فأسهمت بعلمها الغزير فيما بعد في حقول العلوم المنبثقة عن القرآن الكريم من تفسير وفقه وحديث، وتركت بصمات لا يمكن أن يتنكر لها أحد حتى ممن لا يؤمن بإسهام النساء في بناء المجتمع عمراناً ومعرفة. تقف الباحثة في ورقتها هذه مع أمثلة مختلفة تعكس شخصية السيدة عائشة الموسوعية التي جمعت بين التفسير والحديث، لإبراز مشاركة النساء الفعلية في المعرفة الدينية بمختلف فروعها في الفكر الإسلامي. تقدم الدراسة أمثلة باعتبارها معلمة للرجال، ومفسّرة للقرآن، والمستدركة لفقهه، والعالمة والمحدّثة المتقنة، التي تعكس إمامة السيدة عائشة أم المؤمنين في المعرفة الدينية، بتميزها في مجال التفسير، واعتبارها مرجعاً مهمّاً تتلمذ على يدها مشيخة المهاجرين والأنصار وأهل المدينة، حتى قال عنها الحاكم في المستدرك: «حُمل عنها ربع الشريعة». إذ لا تفوت هنا الباحثة مرويات السيدة عائشة في التفسير والحديث التي تحمل طابع التوجيه الفقهي. ولم تخلُ توجيهاتها أيضاً من صورة «المرأة الحرة» المدافعة عن النساء، بروايتها للأحكام التي تخص النساء، ووقوفها أمام الروايات المسيئة لهن، مستوعبة في ذلك رسالة الإسلام الحقيقية التي جاءت لتحرير الإنسان ذكراً كان أم أنثى، فأعطت مثالاً كاملاً في إمكان اقتحام النساء لحقل المعرفة الدينية، وإتقان علوم هذا الحقل وتحقيق الريادة فيه.

رمزيّة زينب بنت عليّ في التراث الشيعيّ

الأكاديمية التونسية، أستاذة التعليم العالي في قسم العربية، بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة: آمال قرامي، وجدت من بين الشخصيات المثيرة للانتباه «زينب بنت عليّ بن أبي طالب» (6هـ-62هـ/ 626-682م)، التي اقترن الحديث عنها بالتعريف بالجماعة: آل البيت واقعة كربلاء وتاريخ الشيعة، وارتبط ذكرها بالمشاعر: حبّها لأخيها «الحسين» ودعمها له. ترى أن هذه الطريقة في التعريف تفصح بزينب بنت عليّ والكتابة عنها، عن إشكاليات عدّة متعلّقة بصلة النساء بالسياسة. فقد لاحظت الكاتبة تجنّب أغلب الكتّاب السنّة الحديث عن النساء اللواتي عارضن السلطة، والنماذج النسائية القدوة في المجال السياسيّ في مقابل توسّعهم في التعريف بسير الصحابيات والمحدّثات والمتصوّفات والعالمات، والإشادة بالدور الدعويّ أو العلميّ أو الاجتماعيّ لفئة من النساء. تتساءل قرامي: هل معنى ذلك أنّ الدور السياسيّ الذي اضطلعت به فئة من النساء مُفتقر إلى القيمة؟ وهل المرأة المعارضة للسلطة السياسية أو الراغبة في الاضطلاع بدور سياسيّ لا يمكن أن تمثّل الأنموذج المقتدى به؟ وهل يفسّر هذا الموقف قلّة اهتمام الدارسين المعاصرين ببعض الشخصيات النسائية التي «تلوّثت» بالسياسة؟ ولم حاول أغلبهم التقليل من شأن الأدوار التي نهضت بها فئة من النساء في المجال السياسي، وفي المقابل تفصيل القول في سوء تصرّفهن في السلطة وإثارتهن للفتن؟ تقول قرامي: قد تجد هذه الأسئلة وغيرها ما يبرّرها في الفكر السنيّ، ولكنّ الاطلاع على أهمّ النصوص الشيعيّة القديمة، والدراسات الشيعيّة المعاصرة، وأعمال بعض النسويات الإسلاميات الإيرانيات، يسمح لها بتبيّن موقف مختلف من ظهور النساء في المجال السياسيّ. مشيرة إلى إشادة كتّاب السير والمؤرخين وغيرهم بالأدوار المركزيّة التي اضطلعت بها بعض الشخصيات النسائية كفاطمة بنت الرسول (ص) وحفيدته زينب بنت عليّ، وهو أمر يدعو إلى التساؤل حول دور الأيديولوجيا في تشكيل صور بعض الشخصيات، لا سيما إذا انتبهنا إلى أنّ طريقة التدوين من وجهة نظر أيديولوجية تعبّر عن تمثّل للمنشود ولا تعكس ما حدث في الواقع. وانطلاقاً من فرضيّة تقوم على وجود اختلاف بين المصادر السنيّة والشيعيّة في طريقة التعريف بزينب بنت عليّ؛ وبالدور الذي تحمّلته أثناء واقعة كربلاء (10 محرّم 61هـ/ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 680م) وبعدها فقد رأت الباحثة أنّ دراسة سيرة هذه الشخصية قد تعيننا على التفكّر في علاقة المرأة بالسياسة، وفهم موقف المجتمع من مشاركة النساء في الشأن السياسيّ عموماً، وفي حركات المعارضة على وجه الخصوص. ولبلوغ مقاصدنا استأنست الباحثة بالدراسات الشيعيّة، وبما وفّرته الدراسات النسائية والنظريات النسوية ودراسات الجندر/ النوع الاجتماعي (السياسة والجندر) وتاريخ النساء من زوايا منهجية عدة تساعدنا على الفهم. فتقدّم الباحثة مقاربة سيرة زينب من زاوية سياسيّة، دون أن تنفي الإفادة من المنهج التقاطعي، باعتبار الصلة العضوية بين الاجتماعي والسياسي والثقافي والأيديولوجي. ارتأت قرامي البحث في مرحلة أولى، عن منزلة «زينب بنت عليّ بن أبي طالب» في التراث الديني الشيعيّ، والنظر في طرق بناء صورتها، ثمّ التأمّل في مرحلة ثانية في مختلف الأدوار التي اضطلعت بها، والوقوف عند ملامح البنية الاجتماعية التي سمحت لفئة من النساء بأن يكنّ فاعلات، ومواجهات لمختلف التحديات. أمّا المرحلة الثالثة فقد خصّصتها الباحثة لاستكناه رمزيّة حضور زينب في الذاكرة الجمعيّة، أما في المرحلة الأخيرة فتتناول تحليل طرق توظيف أنموذج زينب في الثورة الإيرانية (1979).

دور المرأة في العلوم الدينية في العصرين الأموي والعباسي

الأكاديمي حسان حلاق في جامعة بيروت العربية، استعرض أسماء أبرز النساء اللواتي استجبن للتحديات العلمية التي فرضتها مسيرة الإسلام عبر تطوره التاريخي، والتي ظهرت في مجال العلوم الدينية، كمحدثات وفقيهات في مجالات عدة خلال العهدين الأموي والعباسي. ويذكر منهن: بنت الإمام سعيد بن المسيب، حَمِيدَة بنت النُّعمان، عَزَّة بنت حميل، فاطمة بنت الإمام مالك بن أنس، ستيتة بنت المحاملي، السيدة كريمة راوية صحيح البخاري، عَفِيفَة الأصْبَهانية، عَجِيبَة بنت الحافظ البَغْدادِيَّة، شُهْدَة بنتُ أَبِي نصر أحمد بن الفَرَج الدَينَوَري الإبرِي، زينب بنت أبي سلمة عبدالله المخزومية، رابعة بنت إسماعيل العدوية، زُبَيْدَة بنت جَعْفر، وغيرهن الكثير. يرى حلاق بأن المرأة المسلمة التي تعاطت نقل الرواية والحديث وعلوم القرآن الكريم قد أسهمت في إِثراء العلوم الدينية في الدولة الإسلامية، وإِن كان التاريخ الإسلامي لم ينصف تماماً النساء العالمات، لهذا فإن العلماء الرجال اشتهروا أكثر من النساء، بل إن المسلمين عندما ابتدعوا علماً جديداً في ميدان مصطلح الحديث أطلقوا عليه «علم الرجال» علماً أن كثيرات من النساء المسلمات عملن في ميدان الرواية والحديث. بل إن بعض النساء العالمات قدمن للعلوم الدينية وفي مقدمتها الفقه والحديث الشريف، ما لم يقدمه الكثير من العلماء الرجال من المسلمين. يشير الباحث إلى أن النساء العالمات المسلمات قد تميزن بصفة لم تتوافر في العلماء الرجال، وهي مسألة الوثاقة في رواية الحديث والسلامة من التهم والتضعيف. يرى الباحث أن «دور المرأة في العلوم الدينية في العصرين الأموي والعباسي» يحتاج إلى مجلدات وموسوعات لإنجاز دراسة علمية موثقة وموسعة، وذلك نظراً لعدد النساء الكبير اللواتي أسهمن في نشر وحفظ العلوم الدينية سواء بين أفراد الأسرة المسلمة، أو في المجتمع الإسلامي في مصر وبلاد الشام والعراق، أو في المغرب العربي والأندلس وسواها.

التعليم السنّي في مصر الفاطمية: الأصوات النسائية

ترى داليا كورتيز -أستاذة في جامعة ميدلسكس (Middlesex University)، لندن- أن الغرض من هذه الورقة هو إعادة رسم دور النساء المرتبطات بدراسة الحديث، واللواتي نشطن في مصر في عهد الفاطميين، في إطار تاريخ المساهمة النسائية في علوم الحديث؛ والاعتراف بالمكان الذي شغلته أولئك النساء في التاريخ الفكري لمصر في ذلك العهد؛ والنظر ثانية، من خلال تجارب تلك النساء، في المعايير الاجتماعية والثقافية التي أثّرت في وكالة النساء ضمن مجتمع العلماء السنّي الذي كان يعمل في ظل نظام رسمي شيعي إسماعيلي. وفي سياق البيئة التعليمية السنية المصرية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، حيث وصلت مؤسسة «المدرسة» متأخّرة (إلى الإسكندرية) أو لم تصل البتة (إلى القاهرة)، خلافاً لبقية العالم الإسلامي، كان على العلماء المسلمين اللجوء إلى مختلف العلامات الاجتماعية لتوكيد مكانتهم ومرجعيتهم بوصفهم ناقلين موثوقين للمعرفة والإعلان عنها. تقوم فرضية الباحثة في هذه الورقة على أن العالمات السنّيات قمن بدور مهمّ في هذه البيئة التي يسيطر عليها الذكور، بوصفهن «عوامل ربط» في تعزيز التماسك بين الشبكات العلمية السنّية في مصر وخارجها في ظل نظام شيعي، وبوصفهن «روابط نسب» في نقل رأس المال الفكري ضمن أنساب الأسر وتالياً المحافظة عليه. لذا تبرز النساء هنا بمثابة وكيلات بالدرجة الأولى في التطبيقات الاجتماعية للمعرفة الدينية في المقام الأول بدلاً من مساهمات فيها. ثم سيقارن اشتغال تلكم النساء السنّيات في التعليم عموماً بمعاصراتهن الإسماعيليات. فقد نسب الفضل إلى الخلفاء الأئمة الفاطميين، طوال عهدهم، بتشجيع ممارسة تعليم كبار الدعاة لتقديم الدروس وعقد جلسات وعظ مخصّصة لنساء البلاط والأتباع الإسماعيليات على العموم. وفي معظم الحالات، أفيد عن انعقاد تلك الجلسات في أجواء رسمية تتوافق مع الإجراءات المعتمدة من النظام، وتستند إلى أساليب تربوية قائمة على النوع الاجتماعي. اكتسبت محدّثات العهد الفاطمي سمعة بوصفهنّ دارسات أكثر من كونهن مدرّسات. وكان معظم شيوخهن وتلاميذهن من الرجال. وتوسطت تجاربهن التعلّمية بيئة العائلة العلمية التي يعشن فيها ويسيطر عليها الذكور. وبدا في تلك العائلات أن النساء يعملن بمثابة صلة نسب للاحتفاظ بالمعرفة وبثّها ضمن الخطوط الذكرية للعائلة: الأمّهات والأخوات بمثابة معلّمات للأبناء وأبناء الإخوة، والبنات بمثابة دارسات يتلقّين العلم من آبائهنَ، والإخوة الذين يبرزون أكثر من زوجاتهم. غير أن العائلات العلمية اندمجت عن طريق الزواج لتشكّل أو تعزّز الشبكات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية القائمة على مذاهب، وأصول جغرافية، ومكانة طبقية مشتركة. ولا يشكّك الرواة الذين يذكرون أولئك النسوة البتة في موثوقيتهنّ وصرامتهنّ بوصفهنّ «حافظات» و«ناقلات» للعلم، لكن لم تمتدح أي منهن بمثابة «منتجة» للمعرفة الدينية. وكن يُجَزن (بفتح الجيم) ولكن نادراً ما كنّ يُجِزن (بكسرها) الرجال، بل إن إجازة النساء للنساء أكثر ندرة. وفي عالم اجتماعي تسيطر عليه قواعد عزل المرأة والاحتشام، تبدو العالمات كأنهنّ كن يتعاملن عن قرب مع الرجال في الظاهر. ولا تخبرنا المصادر –خارج سياق العلاقات العائلية– ما الآليات التي يعمل بها لضمان المحافظة على الحدود بين الجنسين أو تذليلها بين الشيوخ الذكور والتلاميذ الإناث أو العكس. وبما أن صغر السنّ، وتقدّم السنّ، والتزام العفّة أو الزهد جعلت النساء لا يثرن تهديداً جنسياً للنظام الاجتماعي، فإن هذه العوامل ربما سهّلت تفاعل المحدّثات مع زملائهنّ الذكور كما تجلّى في اللقاء بين السلفي وتلميذته الناضجة أم علي تقيّة. وإلى جانب التطبيق العملي واللوجستي للحدود بين الجنسين، فإن أساليب التعليم التي كانت المعرفة تُتبادل عن طريقها لا تتطلّب قرباً مادياً بالضرورة: يمكن منح الإجازة بالمراسلة ولا ينطوي نظام السماع بالضرورة على الاستماع لقراءة كتاب مباشرة بحضور مؤلّفه. وفي بعض الأحيان، كان ذكر المحدّثات مع التركيز على أصولهنّ العلمية المميّزة يكشف النيّة الحقيقية للرواة من وراء ذكر النساء، وهي أنهنّ أداة لإقامة رابطة بينهم وبين العلماء المرموقين الذين لم يكن لديهم الفرصة للاجتماع بهم شخصياً. وتشير إلى أن الاستغناء عن الشكليات التي فرضها النظام الفاطمي على النساء الإسماعيليات بوصفهن دارسات، سمح بالفعل بمرونة أكبر في الاحتمالات التي تمتّعت بها النساء السنّيات بوصفهنّ مشاركات في تقاسم العلم ونشره في الأوساط السنّية في مصر وخارجها. ويحظى الفاطميون بالإشادة بحقّ باعتبارهم روّاداً في تعزيز التعليم الرسمي للنساء. لكن شكليات مجالس العلم التي يقودها الذكور هي التي تضفي الغموض على دور النساء الإسماعيليات، لا بمثابة متلقيات للمعرفة فحسب، بل مؤثّرات فيها أيضاً. وعلى العموم، فإن محدّثات العهد الفاطمي، سواء أكنّ وكيلات أم محتوى لروايات التراجم، خدمن غرضهنّ في النهاية بالتلاؤم مع عالم ذكوري والوفاء بجداول أعمال ذكورية. وبدلاً من أن نسمع أصواتاً نسائية، فإننا نسمع أصوات الرجال الذين تحدّثوا عنهنّ. ومع ذلك، ربما ما كانت ذكرى أولئك النسوة لتدوم من دون الناطقين بأسمائهنّ.

مسلمات في العصر الوسيط: الحضور الديني

تدرس الكاتبة والباحثة الأردنية في العلوم السياسية: نادية سعد الدين، دور المرأة المسلمة في الحياة العلمية الدينية خلال العصر الوسيط الإسلامي، الممتدّة زمنياً بين القرنين الخامس حتى الخامس عشر الميلاديين، ضمن مجالات: الإفتاء، الفقه، التصوّف، وتأسيس المدارس، وذلك ضمن الحيز الزمني المرتبط بظهور الإسلام في القرن الأول للهجرة/ القرن السابع الميلاي، والجغرافي المحدّد بالعالم الإسلامي، طبقاً لأغراض الدراسة، بدون التوقف عند المفاهيم والدلالات المرتبطة بتلك المجالات، والمصاحبة لأصول التسمية والتعريف، والأسباب والبواعث، والنشأة والتأسيس، إلا ضمن الحدود التي تخدمها فقط. وتقدم نماذج من المفتيات في العصر الوسيط الإسلامي، وتعرج إلى تصدي المرأة للفقه في ذلك العصر، مستعرضة نماذج من المتصوفات، كما تبرز دور النساء في المرحلة الوسطية وتأسيس المدارس. تشير الباحثة إلى أن مسألة تولية المرأة للإفتاء لا تزال موضع جدل ونقاش مستمرين لم يُحسم أوارهما بعدْ، نظير تباين آراء الفقهاء بين تأييد جواز تصدّي المرأة لتلك المهمة، من الناحية الشرعيّة، شريطة توافر متطلبات العلم بأحكام الشريعة الإسلامية علماً صحيحاً يقوم على فهمها والتفقه فيها ومعرفة مقاصدها لبيان الحكم الشرعيّ، واستجماع المؤهلات العلمية والعملية والخلقية اللازمة في المتصدّي للإفتاء، طبقاً للإمام والفقيه الشافعي محيي الدين النوويّ، بوصفه «مكلفاً، مسلماً، ثقة، مأموناً، متنزهاً عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظاً»، وهي ضوابط تنطبق على المرأة والرجل معاً، في ظل الاعتقاد بإجماع الفقهاء على جواز تولي المرأة مهمة الإفتاء، والمشاركة في عمل الاجتهاد الجماعيّ للفتوى، والمجاميع الفقهيّة، استناداً إلى عدم تفرقة الإسلام بين النساء والرجال في العلم والفتيا، وعدم حصر شروط المتصدّي لمهمة الإفتاء، عند أهل العلم، بالذكورة، حيث لم يُعرف في هذا خلاف بينهم، وذلك مقابل رأي مضادّ لجواز الفتوى من المرأة.

إسماعيليتان في السلطة: ست المُلك الفاطمية والحرّة أروى الصُليحية اليمنية

سعى الأكاديمي اللبناني في الجامعة اللبنانية: عفيف عثمان، في دراسته إلى فهم الواقع السياسي والاجتماعي والظروف التي قادت إلى تسلم عدد من النساء المسلمات مقاليد الحكم مباشرة أو من خلف الستار في التاريخ الإسلامي. ويرى عثمان أن الوقائع الصلبة والعنيدة للسياسة والاجتماع عادة ما تكون أقوى من النص، إذ تعيد إنتاج النص الأول وتنتقي منه ما يُبرِر المستجد وتبحث له عن سند شرعي. يتناول في موضوع هذا البحث سيدتين إسماعيليتين: ست المُلك في القاهرة الفاطمية، والسيدة الحرّة أروى الصليحية في اليمن، اللتان أدتا أدواراً سياسية ودينية خطيرة في التاريخ الإسلامي الوسيط. ويخلص فيها الباحث إلى أن وجود النساء في السلطة المباشرة الدنيوية والدينية (ما يطيح باتهامات النقص وغيره) مثل الملكة أروى الصليحية في اليمن، أم غير المباشرة نظير ست الملك في القاهرة الفاطمية، وغيرها من زوجات وأمهات الخلفاء والوزراء لم يكن حدثاً عابراً أو استثنائياً، بل أملته ظروف سياسية دقيقة وحرِجة نجحت فيها المرأة في الإمساك بالسلطة بقوة وفقاً لمنطق المصلحة والغلبة، وقد تابعن تقليداً كان معروفاً في المنطقة العربية واستمر مع الإسلام، لكن الكتبة والمؤرخين وضعوهم في هامش الحوادث لا في متنها. وقد بيّن العمل البحثي «المرأة والحياة الدينية في العصور الوسطى» أن النساء عملن في المجالات الدينية كافة (تقريباً، إذ لم تحسم مسألة القضاء)، فكُتب الطبقات والتراجم غنية بالأمثلة عن نساء اشتغلن بالحديث وروايته ونقله وتدريسه، واهتممن بالعلوم العقلية بما تحتاجه من دراية واجتهاد واستنباط أحكام، مثل الفقه والإفتاء والوعظ إلى جانب مجال ديني آخر هو مشيخة الروابط والزوايا والتدريس والتعليم.

المرأة في الدولة العثمانية: دراسة تاريخية واجتماعية

درس الأكاديمي التركي إسماعيل غوفن، الواقع الديني وعلاقته بالمرأة في الدولة العثمانية من خلال زاويتين تاريخية واجتماعية، مشيراً إلى حدث التحول في الأدوار الثقافية داخل المجتمع التركي، ويرى
أن هذه الفترة دامت ما يقرب من ألف عام متواصلة تسير في إطار الحدود التي أرساها الدين، ووصل هذا التحول الذي بدأ في عهد السلاجقة، ذروة سنامه في عهد العثمانيين، فشهدت الدولة العثمانية إبان عصورها المختلفة العديد من الآراء المتباينة بشأن المرأة. تقع هذه الدراسة في أربعة عناوين رئيسة: أولاً: وضع المرأة إبان الفترة التقليدية للدولة العثمانية (1299-1839)، ثانياً: وضع المرأة في المجال الخاص إبان الفترة التقليدية للدولة العثمانية، ثالثاً: الممارسات المتعلقة بالمرأة على الساحة العامة، والأسس الإسلامية إبان الفترة التقليدية، رابعاً: وضع المرأة في الدولة العثمانية إبان فترة الإصلاحات. يخلص غوفن في دراسته إلى أن المرأة التركية كانت في المجتمع التركي في فترة ما قبل الإسلام عضواً مساوياً للرجل، وقد تراجع هذا الدور عقب اعتناق الأتراك الإسلام، لتصبح في المرتبة الثانية من الناحية الاجتماعية. وفي عهد الدولة العثمانية، أي منذ القرن السادس عشر على وجه التحديد، أطل الفكر الإسلامي الرسمي النمطي الذي تمثله المدرسة السنية برأسه في عباءة التقليدية، وقام بدور محافظ في المجتمع. ونظراً لاعتماد بنية الدولة العثمانية على الأراضي والحروب، استبعدت النساء من الحياة الاقتصادية، ولم يكن لهن أي دور في الحياة العامة، وتأثر وضع المرأة بتفاسير أتباع المدرسة التقليدية للقرآن الكريم، وبتعقيد بنية الدولة. أما الحديث عن وضع المرأة بشكل مختلف عن الدين والعلوم الدينية، فقد بدأ في أعقاب فترة التنظيمات (1839)، حيث العلاقات المتقاربة مع الغرب، وحقوق الإنسان، والحروب التي كانت تطل برأسها أحياناً، والانهيار الذي أصاب المجتمع العثماني جعل الممارسات الخاصة بوضع النساء تتسم بالعلمانية والمساواة الموجودين في النمط الغربي، وإن كان الفكر التقليدي بشأن المرأة وكذلك الغربي واصلا وجودهما معاً على مدار فترة طويلة.

المرأة الصوفية بين الولاية الروحية والقيادة الدينية

سعاد الحكيم -أستاذة الفكر الإسلامي والفلسفة الصوفية في الجامعة اليسوعية بلبنان- تقول في دراستها: إنه من الضروري –في الطرق الصوفية المُعْتَبرة– أن يعرف «المريد» أنّ حلقات سلسلة مشايخ طريقته موصولة بإحكام ودون فجوات، حتى يطمئن إلى كون المدد النبوي يصله عبر شيخه بفيضٍ لا انقطاع فيه، فجاءت حزمة أسئلة الباحثة كالتالي: لماذا لا يوجد اسم امرأة واحدة في سلسلة أقطاب الطرق الصوفية؟ وهل طغيان صيغة «المؤسسة الصوفية» على الوجود الصوفي بعد القرن السادس الهجري استبعد المرأة الصوفية –إلا ما ندر– من قلب الفعل الصوفي إلى الهوامش، لتظل في عداد المريدات الصالحات المجتهدات أو المرشدات التقيّات المستَخْلَفات؟ وهل دخول الطرق الصوفية إلى الغرب الأوروبي والأمريكي منذ بدايات القرن العشرين سوف يغيّر خريطة الوجود النسوي في المؤسسات الصوفية؟ وهل ازدياد عدد الباحثات والعالمات والمجتهدات في السعي الروحي، المنتسبات إلى الطرق الصوفية، سوف يغيّر نمط العلاقات القائم ويسمح للمرأة بأن تتقدّم بسلاسةٍ إلى مراتب القيادة العليا وإعادة هَيْكَلَة إدارتها، لاحتواء المعوقات الناتجة عن الفروقات الجنسية المعتبرة في الممارسات الدينية (كتعيين مسؤولين من قبلها لإمامة الصلاة الجماعية، والإشراف على حلقات الذِّكر)؟. تحاول الباحثة الإجابة عنها في محطات سبع احتضنتها الدراسة؛ المحطة الأولى: المرأة الصوفية والولية في الفضاء الخاص، المحطة الثانية: المرأة الصوفية والولية في الفضاء العام، المحطة الثالثة: نسوة سائحات زاهدات وإلهات عارفات، المحطة الرابعة: إضافات نسوية على التاريخ الصوفي، المحطة الخامسة: النسوة الصوفيات والمنتج المعرفي، المحطة السادسة: امرأة على رأس طريقة صوفية، المحطة السابعة والأخيرة: المرأة الصوفية الباحثة والمؤرخة والمفكرة. تخلص الباحثة إلى أن المرأة ظهرت –بوضوح وبقوة– في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين الميلادي في الفضاء الصوفي الإسلامي. ظهرت كشريك مفكّر ومنتج للمعرفة، وظهورها مباركٌ في هذه المرحلة التي يقف فيها التاريخ الصوفي أمام منعطف كبير ويتحضر فيها التصوف لولادة جديدة في العصر. وتضيف أن الكيان الصوفي تعرض لهجمات شرسة من قبل «الإسلاميين» في القرن العشرين. وبدل أن تقضي عليه هذه الهجمات أحيت أصالته الإسلامية، فشهدنا إحياء صوفياً لا يزال متقداً إلى اليوم.

المرأة الصوفية بعيون شرق غربية.. جهود آنا ماري شيمل

درس خالد محمد عبده -باحث مصري متخصص في الحركات الصوفية- جهود آنا ماري شيمل التي تعتبر من أبرز أعلام الدراسات الاستشراقية المعاصرة، وهي محل ثقة وإجماع في الشرق والغرب، درست في الولايات المتحدة وتركيا، وكوّنت جيلاً وأطّرت الكثير من الباحثين، الذين طوّروا أبحاثها حول دراسات الإسلام والتصوف، وجابت العديد من الدول العربية والإسلامية والتقت بالساسة والزعماء وكُرّمت هنا وهناك، وكان التكريم الشعبي لها أهم فلم تكتب للنخبة فحسب، بل تميزت كتاباتها بالانتشار بين عامة الناس. توزّع اهتمام شيمل على فروع الإسلاميات كافة فيما اقتصر نشاطها البحثي على التصوف فحسب، ففي الخط والرسم والفنون كان لها إسهامها، وفي الأدب العربي كذلك، وفي الحوار الإسلامي- المسيحي، وفي التاريخ، وكذلك في تحقيق النصوص، لكننا ما إن نقف على عتبات نصوصها تقابلنا زهور المتصوفين. ومنذ وقت مبكّر –كما تخبرنا شيمل- كان الورع الصوفي يبهرها، خصوصاً في ترجمات الألمان لروائع الشعر العربي والفارسي، وقد فتنتها -بشكل خاص- في هذه الفترة ترجمة الشاعر الألماني فردريش رويكرت ( Friedrich Rückert) (1788-1866) لأشعار جلال الدّين الرّومي التي نُشرت عام 1820، وببساطة المحبّ تروي في سيرتها أنها ابتاعت من أول راتب حصلت عليه، كتاب المثنوي المعنوي للرومي، الذي سيصبح خير صديق لها في أسفارها. تعلّمت شيمل الكثير من دروس مولانا الرومي، واستحضرته في لقاءاتها العلمية ومحاضراتها، وكانت تحفظ الكثير من حكايات المثنوي، وحِكم الرومي الغزيرة المعنى، وحاضرت عن الرومي في إيران وطشقند وبخارى وباكستان وأفغانستان وأمريكا وتركيا وغيرها من البلدان، أينما ذهبت كان الرومي مرشدها وموضوعها الأبرز. وإن كانت قد تخصصت في (الثقافة الهندو إسلامية) إلاّ أن ذلك دعّم دراساتها في التصوف، ومن الرومي انتقل اهتمامها بالمرأة الصوفية، فـ«روحي أنثى» كتابها عن الأنوثة في الإسلام فيه دليلٌ على سعة الاطلاع واتساع التجربة وثرائها، التي عرّفتنا من خلالها بنساء غير معروفة في الدرس العربي حتى اليوم، فلم يقتصر اهتمامها بالنسوة المتعبدات الشهيرات كما فعلت المستشرقة البريطانية مارغريت سميث (Margaret Smith) (1884-1970)، بل من متون كتب التاريخ والحديث والتفسير والفقه استخرجت حكايات النساء، معتمدة في ذلك مدونة مصدرية واسعة بلغات تربو على العشرة منها: العربية والفارسية والتركية والبشتويّة والأوردية والسندية والبنجابية والسواحلية، مضيفة إلى ذلك اطلاعًا على بحوث وكتب حول هذه الثقافة بالألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية وغيرها. فُتنت بصورة المسيح ومريم في التصوف الإسلامي، فساعدها اطلاعها على ما ورد في كتب الحديث وروائع الأدب الفارسي، وما طالعته من ثقافة الهند أن تؤلف كتاباً تبرز فيه ملامح هذه الصورة، مظهرةً ما خفي عن كثيرين، ولا تفتأ تذكر اندهاشها بهذه الصورة في محاضراتها، ومناقشاتها مع الآباء والقساوسة كما نلاحظ ذلك في كتاب (الإسلام يسائل المسيحية في شؤون اللاهوت والفلسفة) التي كانت شيمل المرجع فيه لكل ما يتعلق بالإسلام. ومن المسيح إلى النبي محمد، كتبت عن تبجيل النبي كتاباً اتخذت من كلمة التوحيد (الشهادة) عنواناً له: (وأنّ محمدًا رسول الله). كان الكتاب ثمرة اهتمامها بشخصية النبي الذي تطوّر على امتداد عقود أربعة. إن إنتاج شيمل المعرفي ثري للغاية، فقد ألفت ما يربو على المئة كتاب وبحث، احتل التصوف فيه النصيب الأكبر، ونظراً لأن هذه الشخصية لم تنل حقّها في الدرس العربي، ولم تقدّم حتى اليوم جهودها في دراسة التصوف، عمل هذا المقال على تقديم ثمرة من ثمارها وهي كتابها: «روحي أنثى» (الأنوثة في الإسلام).

النساء والفقه: الفقيهات المنسيات في تاريخ الإسلام

الباحثة اللبنانية ريتا فرج -عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث- تناولت دراسة الفقيهات في الإسلام مدفوعة بطرح إشكاليتين: لماذا يبدو دور الفقيهات في الإسلام مجهولاً في تاريخنا المعاصر؟ كيف لم تسعفنا المصادر على تظهير دور المرأة في الفقه على الرغم من وفرة المعلومات فيها؟ تضيء الدراسة على الفقيهات كما تحدثت عنهن كتب التراجم والطبقات وبعض المصادر والمراجع الحديثة، فتعتمد على التسلسل الزمني بدءاً من القرن الأول الهجري/ القرن السابع الميلادي، وحتى القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي. وترى أن مؤلفات الفقيهات وإرثهن المكتوب ضاع الجزء الأكبر منه، وبالكاد أشارت المراجع الحديثة المعنية بدراسات المرأة في الإسلام إلى عناوين إنتاجهن العلمي، فلا تتوافر لدينا معلومات عن وجود مخطوطات لعالِمات الفقه تحتاج إلى العمل عليها، وهذا يستدعي بذل المزيد من الجهود للبحث في المصادر التراثية والمكتبات الكبرى للكشف عن دور المرأة الفقيهة في تاريخ الإسلام وتراثها الضائع، خصوصاً أن بعض المشتغلات في هذا الحقل كان لهن إسهام مكتوب في تشكيل تاريخ الفقه، وحملن درجة «ست الفقهاء» وهو لقب شرفي يرمز إلى الأستاذية. نجد مثلاً في التراجم والطبقات «ست الفقهاء بنت إبراهيم بن علي: الشيخة الصالحة المسندة أمة الرحمن بنت الشيخ تقي الدين الواسطي»، وقد أشارت إليها المصادر كمحدثة وليس كـــ«عالِمة فقيهة»، ونفترض أن لها جهوداً هامة في الفقه الإسلامي، ولكن سقطت سهواً من المدونين والمؤرخين، وثمة العديدات من اللواتي حملن هذه الرتبة، وهذا يدل على أن المرأة العالِمة في الحضارة الإسلامية فرضت نفسها ونُظر إليها من قبل العلماء باحترام، دون أن نغفل عن العوامل والمؤثرات الدينية/ المؤسساتية والاجتماعية/ البطريركية الضاغطة. والحال، لماذا علينا تكثيف الدراسات حول «المرأة الفقيهة» في تاريخ الإسلام؟ مرد ذلك ثلاثة مطالب: الأول: فهم الكيفية التي تعاملت بها «الفقيهات» مع «فقه النساء» القديم الذي سيطر عليه الفقهاء، فأسسوا لصورة ذهنية سلبية عن المرأة وأسقطوا الجوهر المساواتي القرآني؛ والثاني: البرهنة على أن الفقيهات لم ينحصر دورهن في أحوال النساء، إذ كانت لهن أدوار أخرى ترتبط بقضايا فقهية عدة؛ والثالث: حق العالِمات المعاصرات المتخصصات في الدراسات الإسلامية والإنسانية أن يكون لهن أصوات مسموعة في المجامع الفقهية ليس فقط في المسائل النسائية، وإنما أيضاً في مجمل القضايا الدينية، التي تشغل بال المسلمين والمسلمات في عصرنا هذا، فالكثيرات لديهن الجدارة والكفاءة اللازمتان بغية بناء «لاهوت نسوي» يحرر النساء من تبعات «الفقه القديم».

أوقاف المرأة في الحضارة الإسلامية: الوقف العلمي

فوزية باشطح -باحثة وأكاديمية سعودية- اعتمدت في دراستها على المدخل الثقافي للتعرف على مكانة المرأة في المجتمعات المسلمة، انطلاقاً من فكرة أن الإسلام واحد، ولكن المجتمعات الإسلامية متنوعة نتيجة لاجتهاد المسلمين، وأن مكانة المرأة متأرجحة حيث تبرز في بعضها في مجالات مختلفة، وتختفي في بعضها الآخر نتيجة للثقافة المجتمعية الموجودة وليس للعقيدة الواحدة، وذلك من خلال الاعتماد على ملمح مهم وهو «أوقاف المرأة في التاريخ الإسلامي»، باعتباره مؤشراً على ثقافة البيئات المسلمة فيما يتعلق بالمرأة، ويعكس وضعها ومدى فاعليتها المباشرة كحاضرة في الفضاء الاجتماعي، وليست متوارية في الظل، وذلك من خلال امتلاكها للثروة والمكانة ومساهمتها في تشكيل الوضع الاجتماعي والعلمي. علماً أن الدراسة لن تتعمق في استعراض التشويه الثقافي الذي تعرض له تاريخ المرأة المسلمة، والمتمثل في مؤثرين رئيسين قلّ ما يسلم منهما كثير من الباحثين في هذا الموضوع، الأول: ما كرّس له بعض الأدباء حين همشوا حضورها في كثير من المجالات؛ ولولا ما حفلت به كتب التراجم التي لم تغيبهن أسوة بكتب الأدب لشككنا في وجودهن التاريخي، والثاني: اختزال حياتها في حريم أنتجته المخيلة الاستشراقية، وهو تشويه يعود في جزء كبير منه إلى دواوين التراث الأدبي الإسلامي. تحاول الدراسة الإجابة عن الأسئلة التالية: ما الوقف النسائي؟ من هن أصناف الواقفات؟ لماذا كثرت أوقافهن؟ ما التأصيل الشرعي لمشروعية وقف المرأة؟ ما آثاره ومجالاته على النهضة العلمية في التاريخ الإسلامي؟ هل انعدم الوقف النسائي في زماننا؟ تشير باشطح إلى أن الباحث في نظام الوقف والمتأمل لنماذجه التطبيقية في ضوء دلالاته التشريعية، لا يمكنه تجاهل العلاقة بين الوقف ومفهوم المسؤولية الاجتماعية لدى الفرد المسلم ذكراً كان أو أنثى. إلا أن المرأة بطبيعتها التي تغلب عليها الرحمة والمحبة؛ كانت لها إسهامات بارزة في مجال الوقف عبر التاريخ الإسلامي، وإن كان ما أوقفته في صدر الإسلام يُعد محدوداً لا يتعدى السكن أو مجموعة الحلي، إلا أنه تطور كثيراً عبر الزمن، في مؤشر واضح على تنامي مكانتها في المجتمعات الإسلامية المختلفة، وما النماذج التي استعرضناها إلا دليلٌ على ما قدمته المرأة من دعم للطبقة الأضعف في المجتمع، لتتيح لهم مجانية التعليم والعلاج من خلال نظام الوقف الإسلامي.

الشيخة فاطمة العوضـية.. شهيدة البحث الفقهي في القرن العشرين

يقول صلاح حسن رشيد -باحث وإعلامي مصري-: عاشت المرأة العربية في العصر الحديث، وهي تعاني من الإهمال، والتهميش، والقمع على غرار جداتها السابقات في العصور الخوالي. فلم يُسْمَحْ لها بالخروج لطلب العلم مثل الرجل، ولا بالتردد على ساحاته، والنهل من العلوم إلا في أضيق الحدود! وطوال تاريخ الأزهر الشريف، لم تستطع المرأة اقتحام حصونه، وفتح قلاعه، لكي تسهم في النهوض بنفسها ومجتمعها علمياً ومعرفياً! فلم نسمع في تاريخنا المعاصر عن وجود لقب (شيخة)، الذي يماثل علمياً لقب (شيخ)! بسبب غلبة العادات الراكدة، والتقاليد البالية، والتهوين من شأن المرأة.

يقدم الباحث مجموعة من التساؤلات، يسعى فيها لشرح الحالة، مستعينا بقصة الشيخة فاطمة العوضي كأنموذج: تُرى لماذا كانت النساء تتصدَّر حلقات العلم والدرس في أروقة المساجد وزواياها، منذ عهد الصحابة، مروراً بالعصور التالية، من دون أيِّ حرجٍ أو تضييقٍ أو تنطُّعٍ أو تشدُّدٍ؟! ولِمَ كانت النساء في أيام الإسلام الأولى تتمتع بحرية التعلُّم والتعليم في الجوامع الكبرى، بلا محاذير ولا تثريب؟! «ولماذا سُمِح للكاتبة والعالمة المصرية عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) -مثلاً- بالتدريس في رحاب الجامع الأزهر الشريف للرجال والنساء على السواء، في ستينيات القرن العشرين، في حين أن هذه الحرية العلمية، وذلك المناخ الصحي الحضاري مُنغلِقٌ اليوم بمحابس التَّشدُّد والجهل والفقر الفكري والاجتماعي»؟! وكيف نُعيد للمرأة مكانتها السامقة التاريخية، كفقيهةٍ، ومُجتهِدةٍ، وصاحبة رأيٍّ، وطريقة في الفهم، والتعاطي مع مستجدات الحياة، وما يثيره العقل من معضلات الفكر والتفلسف والوجدان؟! ولِمَ صارت أقوال الرجال الفقهية المناهضة للمرأة، هي الإسلام، في حين أنَّ القرآن نادى بالمساواة المطلقة بينهما، إلا في بعض الأمور الضيقة الفرعية؟! وكيف نُعيد للإسلام روحه المسروقة، ومرونته، وصفحاته الزاهيات الأولى في مناصرة المرأة، والدفاع عنها؟! وكيف نُقاوِم قروناً تطاولت علينا، حيث أقوال الرجال صارت دِيناً آخر يُعْبَدُ، غير دين الله السمح المتسامح؟!

قراءة في كتاب: النسوية الإسلامية وحدود القرآن (Feminist Edges of the Qur’an)

يقدم البروفيسور محمد الحداد -الأكاديمي والباحث التونسي، أستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة (تونس)- قراءة في كتاب «النسوية الإسلامية وحدود القرآن»، للباحثة عائشة هداية الله. حيث يرى الحداد أن الباحثة سعت إلى تقديم عرض مكثف في موضوع النسوية الإسلامية، وتحديداً مقاربات هذا التيار للنص القرآني. ولئن عملت على تقديم أفكارها انطلاقاً من أعمال مجموعة من الكاتبات المصنفات في هذا الاتجاه النسوي، فإن كتابها قد احتوى أيضاً على مناقشات وانتقادات جريئة لكاتبات مشهورات، مع حرص صاحبته على الفصل المنهجي بين عرضها لطروحات الآخرين وتقويماتها الشخصية لها. حدّدت صاحبة الكتاب مدونتها في الشخصيات النسوية التالية: رفعت حسن، أستاذة الدراسات الدينية في جامعة لويسفيل (الولايات المتحدة الأمريكية) منذ سنة 1976، وهي باكستانية الأصل ولدت بمدينة لاهور في أسرة مرفهة، وتلقت تعليماً إنجليزياً قبل أن تلتحق بجامعة بريطانية في ستينيات القرن الماضي. الكاتبة الثانية في المدونة هي عزيزة الهبري التي شغلت خطة الأستاذ في جامعة فرجينيا (الولايات المتحدة الأمريكية) من سنة 1992 إلى سنة 2012، ودرست قبلها الفلسفة في جامعات أخرى، وهي من أسرة لبنانية ذات صيت في الدراسات الدينية، وفرت لها فرصة دراسة القرآن واللّغة العربية قبل أن تلتحق بالجامعة الأمريكية ببيروت، حيث تخرجت لتهاجر سنة 1966 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك تعرفت على المناضل المسلم المقاوم للتمييز العنصري مالكوم إيكس (Malcolm X)، كما تحصلت على الدكتوراه في الفلسفة. ربما كانت الشخصية الثالثة أكثر شهرة وهي آمنة ودود التّي درّست بالجامعة الإسلامية بماليزيا وبجامعات أمريكية، وقد لا يعرف الكثيرون أنها ولدت في أسرة مسيحية ثم اعتنقت الإسلام، ولها معرفة عميقة بالإسلام واللّغة العربية اكتسبتها من دراستها بمصر. أسماء برلاس هي أيضاً نسوية مسلمة تدرس في جامعة نيويورك بعد أن عملت سابقاً في الديبلوماسية الباكستانية، وبفضل ثقافتها المزدوجة، إذ درست بين باكستان والولايات المتحدة، تمكنت من تطوير بحوث عميقة في قضايا التفسير الديني وقدمت مشروعاً نقدياً لكل التأويلات الذكورية للقرآن، من خلال تنزيل النص القرآني في سياقه التاريخي، معتبرة أن القرآن ليس مسؤولاً عن سيادة الروح الذكورية، بل إنه سعى إلى محاربة هذه العقلية منذ بداية الإسلام. تمثّل سعدية الشيخ شخصية أخرى من المدونة تتميز بأصولها الجنوب أفريقية، وكفاحها ضد نظام التمييز العنصري في البلد الذي ولدت به. لذلك جاء اهتمامها بالنسوية والقرآن في إطار النضال ضد كل أشكال التمييز، ومنها التمييز ضد المرأة، وقد عملت في أطروحتها للدكتوراه التي ناقشتها في جامعة فيلادلفيا الأمريكية على تفسير المسار الطويل الذي أدّى (في العصر الوسيط) إلى فرض رؤية مسيئة للمرأة في الفكر الإسلامي، مقابل رؤى أخرى ذات منحى إيجابي احتوتها خصوصاً الأدبيات الصوفية. أخيراً، تمثل كيسيا (كاسية) علي أنموذجاً آخر من النسوية الإسلامية، وهي أستاذة الأديان بجامعة بوستن الأمريكية، وقد اعتنقت الإسلام في صباها واهتمت في دراستها بالفقه الإسلامي وتاريخه وتشريعاته في المجال الأسري، ونشرت دراسات معمقة في تطوّر أحكام الزواج منذ المراحل المبكرة من الفقه السنيّ.