يتناول هذا الكتاب مسارات تأهيل وتدريب القادة الدينيين في أوروبا، مركزاً على النماذج الهولندية، والبلجيكية، والدنماركية. تطرقت الدراسات إلى تدريب المرشدات الروحيات المسلمات، وناقشت إدارة مؤسسات الإمامة والإرشاد في بلجيكا، ومساعي التأسيس الفرنسي البلجيكي للمعهد الأوروبي لتأهيل الأئمة، كما تضمّنت التجربة الدنماركية التي قدمها رائد من روّاد دراسة الإسلام في الغرب، تَتَبع فيها محاولة الدولة الإفادة من تجربة الكنيسة بوصفها مؤسسةً تمثل الدين والمؤمنين، وتطبيقها على المجتمع المسلم الذي يفتقد المؤسسيّة الدينية الهرمية، كما سعى لفهم أثر التمايزات الإثنية. وبقدر ما أظهر الكتاب التأثير الرسمي للإسلام التركي على القومية التركية في الشتات الأوروبي، إلا أنّه عكس وجود جماعات موازية مثل السليمانية ومدارس أخرى؛ وفتح الباب للنقاش حول تطوير مناهج وبرامج تدريب القادة الدينيين.
تم النشر في: April 2022
يبحث كتاب المسبار للدراسات والبحوث في هذا العدد، تكوين الأئمة والمرشدات في هولندا وبلجيكا والدنمارك، ويقدم لمحة تاريخيّة حول إضفاء الطابع المؤسساتي في تدريب الأئمة والمرشدات في اهتمام مبكر بتأهيلهم، ازدادت حاجتها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ثم يتناول أبرز النقاشات والمبادرات والبرامج التي انطلقت منها الدول المعنيّة، مسلطًا الضوء على استغلال الإسلامويين للتعليم الديني واحتكار المشاريع التعليمية في المؤسسات الأوروبية والمجتمعات المسلمة فيها، ويستعرض المبادرات الحكومية والخاصة وإدارتها، والاتجاهات المعاصرة لها، تخللتها المراجعات الدورية في مسارات التطور والقوانين الناظمة لها، اصطدمت حاجات بعض منها بالتمويل والتركيبات الاجتماعية الديموغرافية المختلفة داخل المجتمعات المسلمة الأوروبية.
تلفت مقدمة الكتاب، إلى أن كتاب «مسارات تكوين القادة الدينيين في أوروبا: الأئمة والمرشدات في هولندا وبلجيكا والدنمارك»، يأتي استكمالاً لجهد تراكمي منذ أربعة عشر عاماً، بدأ منذ كتاب «الإسلام الأوروبي»، الصادر في أبريل (نيسان) 2008، ثم كتاب «انبعاث الإسلام في إسبانيا» في أكتوبر (تشرين الأول) 2011، وكتاب «الإسلام والمسلمون في البلقان» في مايو (أيار) 2014، وأعقبه «الإسلام في أوروبا: إشكاليات الاندماج» في أبريل (نيسان) 2016. وطُرِحَت مسألة عودة المقاتلين من بؤر التوتر في كتاب يوليو (تموز) 2017، ثم «الإسلام في فرنسا: الإخوان، الإرهاب، المعالجة»، في ديسمبر (كانون الأوّل) 2018. وتناول كتاب فبراير (شباط) 2020: «رؤى من بلجيكا لمكافحة التطرف والإرهاب»، وكان كتاب يونيو (حزيران) 2021 هو: «الإسلام في السويد: مخاطر الإسلاموية وتحديات الاندماج».
تتفرّع الدراسات الأكاديمية المعالجة للظواهر المرتبطة بالإسلام في أوروبا، على مسارات أكاديمية متعددة، ولكنّ أغلبها ينطلق من فرضيّة اغترابيّة الدين عن الواقع الأوروبي؛ فيُنظَر إلى الإسلام باعتباره ديناً مهاجرًا لأرضٍ جديدة، وأن جيل «المهاجرين/المسافرين» الأوّل يتفاعل مع مجتمعٍ أصلي، بطريقةٍ تختلف عن الجيل الثاني والثالث! فيظهر ذلك في الهويّة والارتباط بالأرض الأم، وأنماط التفكير المتصارعة. وتتكثف التحديات في ملف المهاجرين، في مدى تقبّل فكرة الاندماج في شكل المجتمع الأوروبي وقيمه ودولته، والتخلّي عن بعض أشكال الهويّة التمايزية. وفي هذه النقطة تظهر حاجة لمساومات معرفية وثقافية واجتماعية، تفضي إلى الاضطرار المتوهم لاختيار جماعةٍ تمثّل «الهوية التمايزية المتفاوضة»، فتبرز الجماعات الإسلاموية حينها، ممثلاً للتفاوض المزعوم. وقد بقي ملف صناعة الفاعلين في الأوساط التفاوضية، قضيّةً غامضة، فآلية اختيار الأئمة؛ والمفتين، ورجال الدين، أُخضعت لعمليةٍ ترفض تدخّل الدولة، ولا تنفك عن أسر التنظيمات العابرة.
كانت أدوار الفاعلين الدينيين مربكةً للحكومات الأوروبية. بيد أنه يمكن فرزهم على فئات أربع؛ الأولى للمفتين اليوميين الآنيين: وهم من فنيي صناعة الرأي الديني في المسائل اليومية الحياتية؛ والفئة الثانية من الذين يفكون المستعصي من المسائل الفقهية النازلة وهم «العلماء»، والطبقة الثالثة من المرشدين الروحيين من رجال التربية والتصوف أو ما يكافئه؛ والطبقة الرابعة من المرشدين والأئمة، خصوصاً الوعّاظ ومؤدي الطقوس اليومية والجنائز. تمثّل الفئة الرابعة؛ محلّ الدراسة، الحلقة التي قدّرت المشاريع الأوروبية، جعلها مساوية لرجل الدين في السياق المسيحي! فمنحتها سلطته الروحية، وعلى هذا الافتراض نشأت برامج لتدريب الأئمة ومنحهم صفات المرشدين الدينيين في السجون والمستشفيات.
افترعت الدول الأوروبية، كل وفق سياقه، برامج لتدريب الأئمة وتوطينهم وفق سياق الدولة، في مشاريع متباينة، اختارت دراسات هذا الكتاب منها: الأنموذج الهولندي الأكاديمي وتطبيقاته، والأنموذج البلجيكي الذي سعى لتلبية الاحتياجات الاجتماعية في السجون والمستشفيات والمؤسسات العقابية، وحتى في القوات النظاميّة.
تناول الكتاب تدريب المرشدات الروحيات المسلمات، وناقش إدارة مؤسسات الإمامة والإرشاد في بلجيكا، ومساعي تأسيسٍ (فرنسي- بلجيكي) للمعهد الأوروبي لدراسات الإسلام -يستفيد من العلوم الاجتماعية والإنسانية- لتأهيل الأئمة، كما تضمّن الكتاب التجربة الدنماركية التي قدمها رائد من روّاد دراسة الإسلام في الغرب، وهو نيلز فالدِمار فيندنغ (Niels Valdemar Vinding)؛ تتبع محاولة الدولة إسقاط تجربة الكنيسة بوصفها مؤسسةً؛ على المجتمع المسلم الفاقد للمؤسسيّة الدينية الهرمية؛ كما سعى لفهم التمايزات الإثنية. وبقدر ما أظهر الكتاب التأثير الرسمي للإسلام التركي (ديانت)، على القومية التركية في المهجر الأوروبي، إلا أنّه عكس وجود جماعات موازية مثل السليمانية، الملتفة حول رجل الدين التركي سليمان حلمي طوناخان (Süleyman Hilmi Tunahan) (1888-1959)، المحسوب على سعيد النورسي (1878-1960).
تضع دراسة أنس ليتوس -باحث وطالب ماجستير في الدراسات الأوروبية والعلوم الإسلامية بجامعة لوفين الكاثوليكية- تجارب تكوين وتدريب الأئمة في منظورها التاريخي، وتضيء على تجارب أوروبية، منها هولندا وبلجيكا. تطرح سؤالاً أساسياً: ما الدوافع الرئيسة للدول الأوروبية لتكوين الأئمة؟ يشرح الباحث أن هذه المبادرات لتكوين الأئمة تهدف لكي يكونوا، أداة لإنتاج أئمة «معتدلين» قادرين على قيادة مجتمعهم نحو قبول المبادئ القانونية والأخلاقية المتبعة في المجتمعات الأوروبية. ومن أجل فهم هذه القضية جيدًا، تركز دراسته في القسم الأخير على الإسلام الأوروبي. يخلص فيها إلى أن التركيز على مشاريع لتكوين الأئمة يمكن فهمه على أنه «استجابة مؤسساتية» لتلك النقاشات.
يمكن النظر إلى مثل هذا التكوين على أنه أداة، اكتسبتها الدولة ورأت فيه أنه جدير بأن يحقق التحرر للأقليات الدينية المسلمة، وأن يساعدها على الاندماج الكامل ويدير شؤونها الدينية. وبالرغم من أن النقاش حول تكوين الأئمة هو حديث عهد. لقد رأينا أيضًا، أن صناع القرار، يؤيدون بشكل عام تكوين وتدريب القادة الدينيين في أوروبا من منطلق منع التطرف العنيف، وتنفيذا لمقاربة الجانب الوقائي والجانب العلاجي لكثير من الظواهر الاجتماعية الشائكة في المجتمعات الأوروبية. تواجه مشاريع تكوين الأئمة، صعوبات في إيجاد تمويل قانوني، قوي ومستقر لضمان استمراريتها، وأحياناً انعدام الثقة في الجهات المنظمة التي تم التعبير عنها، بالتدفق المحدود من أجل الانخراط الكامل من طرف الجماعة المحلية المسلمة. هناك خطورة اختيار أيديولوجيا معينة، لا سيما استغلال الإسلام السياسي لهذه المشاريع لتثبيت عمقه الاستراتيجي في أوروبا.
على الرغم من أن هناك شبه اتفاقٍ على الحاجة إلى التكوين المناسب لتكوين الأئمة، فإن المعنيين من المجتمعات المسلمة ومجالس المساجد، وحتى الهيئات الحكومية قد تكون لهم أفكار مختلفة تمامًا عن نوع التكوين والتدريب المرتقب، الذي يجب أن يتلقاه الإمام في الدول الأوروبية. وهذا –بدوره- يؤدي إلى توترات وانزياحات داخل عملية مأسسة تكوين الأئمة. ويرى أن الإسلام الأوروبي القائم على نهج ليبرالي للمعرفة وللنمو الشخصي، هو الأساس في تكوينات الإمام، وقد يتميز بكونه قادرًا على تخريج أئمة معاصرين ومؤهلين.
تناولت دراسة رمضان أبو جزر -باحث وأكاديمي ومدير مركز بروكسل الدولي للأبحاث وحقوق الإنسان- أهم المشاريع الإخوانية التكوينية والتعليمية التي أُسست في الدول الأوروبية، لتدريب وتأهيل وتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، وتتوقف عند بعض الأمثلة في كل من بلجيكا، وفرنسا، وهولندا.
يرى الباحث أن من مظاهر أزمة مؤسسات التعليم الديني أنها لا تزال عرضة للاختراق من طرف الجماعات الإسلاموية المتشددة وتنظيم الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، نظراً لغياب الملكة النقدية وتقبله في التعليم الديني التقليدي. مع أن المؤسسات التعليمية بما فيها المنظومة الفكرية الإسلامية قادرة على التغير والتطور في البيئة الأوروبية لكي تكون حاضنة للتعددية، من دون السقوط في فخ الإسلام السياسي، لأن الإسلام عادة يتفاعل مع الثقافة المحلية والبيئة الحضارية التي يحل فيها. وهذا ملاحظ في تطور الإسلام في البلدان الأفريقية والآسيوية، حيث يتميز كل «إسلام» بلون معين من الفهم والتفكير والاجتهاد بحسب طبيعة ثقافة البلد الذي ينتشر فيه. تحتاج مؤسسات التعليم الإسلامي من يخلصها من الأيديولوجية الإخوانية، وهي أزمة لا تقل أهمية عن الأزمات العامة التي تعيشها المؤسسات والمراكز الإسلامية في أوروبا وفي العالم الإسلامي.
أشار أبو جزر إلى الاختلالات التربوية التي يعاني منها التعليم الديني التقليدي، من تضخم في الجانب المعرفي ومناهجه وبرامجه، مما يجعل من إنشاء مؤسسات تعليمية قوية وقادرة على تخريج الأئمة والمرشدات الدينيات أمرا ملحاً ومستعجلاً في المستقبل في أوروبا.
يعد إنشاء المؤسسات التعليمية، وإصلاح منظومتها، من أنجح الطرق لمحاربة التطرف والإرهاب في المجتمعات، وفي مجال التمييز بين المجتمعات المختلفة والمجتمعات المتقدمة، نجد أن البعض يكاد يكتفي بهذا المعيار مؤكداً أن التعليم الجيد والتكوين المستمر الذي تقوم به، هو الذي يكفل القضاء على كثير من المشكلات الفكرية والسلوكية والنفسية، وأكد بعض آخر أننا كلما فتحنا مدرسة، فإننا نكون بذلك قد أغلقنا سجناً، أو على الأقل ألغينا فرصة افتتاح سجن جديد، على أساس ما تقوم به المؤسسات التعليمية والتكوينية من غرس القيم الأخلاقية والتنوير الاجتماعي والوعي القانوني. ويحق للدين أن يطلب من أتباعه أن يرفعوا من قدر العلم، وأن يطلبوه ولو كان في الصين، أن يكون دينا ربانيا ورسالة سماوية. لا تزال محاولات الإسلام السياسي والإخوان المسلمين بالذات قائمة للسيطرة على روافد التمثيل الديني، والتوغل في المؤسسات الحزبية والحكومية الأوروبية. يتم ذلك بغطاءات مختلفة وبأسماء جمعيات ومؤسسات تحمل أفكاراً ومبادئ ظاهرها قد يثير الإعجاب، وتجذب بعض المخدوعين الذين يجهلون الأهداف الحقيقية للمحاولات الإخوانية من التوغل والتأثير من أجل السيطرة. بالرغم من تنبه بعض الأجهزة الأمنية في أوروبا أخيراً للخطر الحقيقي لهذا التنظيم، واعتبار توغلهم في المؤسسات الأوروبية خطراً على الديمقراطية في أوروبا. فإن للإخوان القدرة دائماً على التلون وإعادة التموضع، بحكم استمرار الدعم والرعاية الخارجية واستعمال المظلومية تارة، والتنظيم المحكم تارة أخرى. والأهم في ذلك، هو المال الوفير الذي يتوافر لديهم دائماً، ومن مصادر غير معلنة ومبهمة.
قدّمت ويلموت بويندر (Welmoet Boender) -باحثة وأكاديمية، أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية والدينية في «كلية الدين واللاهوت»، بجامعة فرييه (Vrije Universiteit)، أمستردام- في هذه الدراسة، نظرة عامة عن المبادرات السارية والمنقطعة التي أُطلقت حديثًا في برامج تدريب الأئمة في هولندا. إذ بدا واضحًا أن كل شكل من التعليم يسير بالتوازي مع توقّعات معينة، ويملك تركيبًا مختلفًا استنادًا إلى من يتولون شأنه، وكذلك فإنه يتوافق مع التركيب المتنوع للمسلمين في هولندا. بالإضافة إلى الاهتمام بالتدريب المتعلق بأئمة المساجد، تلاحظ دراستها أيضًا نموًا سريعًا لأهمية تدريب مهنيين (ذكورًا أو إناثًا) ممن يستطيعون أيضًا، أو خصوصًا، العمل خارج المسجد.
تقدم دراستها أولًا مخططًا عن الأفكار التي أُعطيَتْ في البداية، عن تدريب الأئمة مِنْ قِبَل الحكومة والمنظمات الإسلامية في هولندا. بعدها، تظهِر وجود أربعة أنواع من التدريب مثّلتها مبادرات خاصة مِنْ: المنظمات المسلمة، والتدريب المُمَوّل من مؤسّسات عامة، إضافة إلى ذلك المقَدَّم من مانحين أجانب، وكذلك البرامج الإضافية في التمرّس المهني المحترف. ويعرض أمثلة على كل نوعٍ منها. بينما تركّز بعض تلك البرامج على تدريب أئمة المساجد بصورة محددة، أعطي التدريب أيضًا حقولاً مهنية أكثر اتساعًا بإمكانها أن تمارس خارج المسجد. بالتالي، يتناسب هذا التطوّر بصورة نموذجية مع سياق تحرر مجتمعات مسلمة متنوعة ومتخالطة في هولندا؛ إذ لا يحتاج مسلمو هولندا إلى مجرد أئمة مساجد يحوزون تدريبًا جيّدًا، بل يحتاجون أيضاً إلى متمرسين محترفين في المهن الدينية على غرار المستشارين الروحيين في المستشفيات والسجون ودور رعاية كبار السن، والأساتذة والمربين في (مساجد) المدارس، إضافة إلى مستشارين يقدمون استشارات إلى شركات وجمعيات أهلية غير حكومية. وأنه من بين مروحة واسعة من مناهج تدريب الأئمة وإعدادهم في هولندا، من المستطاع استخلاص أن مختلف الأطراف المعنية تعطي أهمية كبرى للتدريب، الذي يتضمن إعدادًا دقيقًا للنهوض بمهمات الإمامة في المسجد والمجتمع الهولندي. ثمة منشآت متنوعة ولديها مجموعات مستهدفة مختلفة، ومقررات دراسية متنوعة كذلك. قدمت هذه الدراسة مساهمة مفادها أنه «لا يوجد حجم واحد يناسب الجميع» بالنسبة لنماذج التعليم في هولندا، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود حاجات متباينة في المجتمع المسلم المتنوّع في هولندا. كذلك تبدّى بوضوح أن المهن التي يجب أن تكون ذات دلالة في برامج التدريب الهولندية، تذهب إلى أبعد من المسجد وحده. إذ تتزايد الحاجة إلى مهنيين دينيين محترفين يستطيعون العمل خارج المساجد أيضًا.
تدرس فكتوريا فاندرستين (Victoria Vandersteen) -باحثة ميدانية بلجيكية، متخصصة في علم الاجتماع والهجرة- تاريخ المرشدين الروحيين في بلجيكا، والمواقف والتحديات التي يواجهونها في السجون والمستشفيات ومراكز احتجاز الأحداث، ودور رعاية المسنين والجيش والشرطة، ومراكز الأعمال.
تلاحظ الباحثة أن المسلمين في بلجيكا يتزايدون ويتقدّمون في السنّ. وهؤلاء احتياجاتهم ضخمة ويجب تلبيتها في المستقبل القريب في السجون والمستشفيات والقوات المسلّحة ودور رعاية المسنّين، مع مراعاة الضيق الروحي الذي يعاني منه الكثيرون بالفعل بسبب التعرّض للأمراض الجسدية والعقلية في أي عمر. يشعر جلّ السكان بهذا الضيق الروحي أيضاً، ويخضع لتحليل العديد من الأبحاث، مما يُظهر الفعالية القائمة على أساس علمي لرجال الدين تجاه من يعانون من ضائقة روحية.
ترى في دراستها أنه لا بد من توفير التدريب اللازم للمستشارين والأئمة المسلمين، بالإضافة إلى الموظفين الذين سيكونون على اتصال بالمرضى أو السجناء المسلمين، وأنه يجب أن يحظى بالأولوية في المستقبل. ويجب تنفيذ اعتماد رجال الدين/ المستشارين المسلمين لتحقيق جودة الخدمة المقدّمة للمرضى والسجناء والأحداث المجرمين المسلمين. وستحسّن الجودة الضرورية للخدمات والتفاعلات في الميدان تقديم الرعاية التي ستعود بالفائدة على الجميع على المدى الطويل. وذلك يتطلب درجة البكالوريوس أو الماجستير مع تعليم ديني على مستوى الدراسات العليا، وتعليم رعوي سريري، يحظى بتصديق/ دعم جماعة دينية معترف بها والكفاءة المثبتة في العمل بمثابة رجل دين. ومن نافلة القول: إن البحوث في هذا الموضوع، وخاصة مهنة رجل الدين المسلم، ستكون مفيدة للغاية للمجال العلمي أيضاً.
تقدّم دراسة عائشة باشا -أكاديمية وباحثة مغربية، متخصصة في العلوم الاجتماعية والإسلام السياسي- صورة مصغرة عن ظروف تدريب المُرشِدات في بلجيكا، التي لا تختلف كثيرًا عن أحوال تدريب الأئمة والمُرشِدين الدينيين، وتعكس تلك الظروف الضيق، الذي يعانيه المجتمع المسلم في بلجيكا؛ إذ يبقى محرومًا من وجود تدريب للمُرشِدات يستجيب لتطلّعاته الروحية والفكرية. تقترح الدراسة حلولًا في علاج الصعوبات، وتشجيع ظهور «حركة خاصة للمُرشِدات البلجيكيات».
تخلص الباحثة إلى أن تدريب المُرشِدات يجب أن يتيح لهن العمل على تطوير جماعي لتكوينهن التعليمي، وقيادتهن ومعرفتهن عن الإسلام، وتزويدهن باستراتيجيات جيدة في التواصل. وهذا يستدعي فتح مراكز تدريب عدّة للنساء من مختلف المجتمعات الألسنية في بلجيكا. وأن توفير الإرادة السياسية الحقيقية لتشجيع النساء على اختيار هذه المهنة أو حتى إعطائهن تلك الفرصة، سيكون مهماً. وإذا أخذنا بالحسبان كَمَّ الكفاءات بين النساء المسلمات من اللواتي يشغلن مناصب تنفيذية باتت مواهبهن منتشرة في المملكة البلجيكية، يكون ممكنًا اقتراح حلول شاملة وفورية لمشاكل عدة يواجهها الإسلام في بلجيكا.
تناولت دراسة التجاني بولعوالي -باحث وأكاديمي مغربي، أستاذ في كلية اللاهوت والدراسات الدينية في جامعة لوفين، بلجيكا- إدارة الشأن الديني والإمامة في بلجيكا، يقدمها بداية في إطار نظري تاريخي للوجود الإسلامي المبكر في بلجيكا، لا سيما من خلال الضيوف العمال منذ ستينيات القرن الماضي. وبعد أن توطّن المهاجرون المسلمون مع مرور الزمن بشكل نهائي في المجتمع البلجيكي، وصاروا يتمتعون بالمواطنة الكاملة، طفت على السطح تحديات عدة، يتعلق أهمها بإدارة الشأن الديني، الذي لا يتم إلا انطلاقاً من مؤسسة المسجد، حيث يؤدي الإمام دوراً مركزياً. مشيرًا إلى أن إطار دراسة الإسلام في بلجيكا يعود إلى بداية الستينيات من القرن الماضي، عندما استقدمت بلجيكا –وغيرها من دول الغرب التي أنهكتها حربان عالميتان اثنتان– اليد العاملة من دول تقع في جنوب أوروبا (مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان) ومن تركيا والمغرب العربي الكبير (المغرب الأقصى والجزائر وتونس) وذلك لبناء ما خلفته الحرب من دمار عمراني وصناعي فيها.
يرى الباحث أن واقع المسلمين شهد في بلجيكا تحولاً جذرياً في العقدين الأخيرين في غياب المواكبة من مؤسسة المسجد، ليس على المستوى الكمي والديموغرافي فقط، بل على المستوى المعرفي والهوياتي أيضا، ومردّ ذلك أن الشروط الاجتماعية والسياسية والقانونية، لم تبق كما كان عليه الأمر إلى حدود أواخر القرن الماضي. لقد أصبحنا اليوم أمام أجيال مسلمة متطورة تتمتع بمختلف المهارات المهنية والتواصلية والاجتماعية، وتطرح أسئلة جديدة تعجز مؤسسة المسجد عن إيجاد حلول مناسبة لها، ولم يعد بإمكان أغلب الأئمة الذين وفدوا على بلجيكا مع المهاجرين الأوائل تفسيرها التفسير الواقعي والعملي، الذي يأخذ حاجيات وتطلعات الأجيال المسلمة الصاعدة بعين الاعتبار. وهذا معناه أن مؤسسة المسجد لم تواكب هذا التحول الذي طرأ في المجتمع الإسلامي في بلجيكا، مما ترتب عنه نشوء مختلف الإشكاليات بين أوساط الشباب المسلم، مثل التطرف. وهي مشاكل لا تتعلق بواقع المسلمين فقط، بقدر ما تمتد تداعياتها إلى المجتمع عامة. وقد رأينا كيف أحدثت تفجيرات بروكسل في مارس (آذار) 2016 ارتجاجاً هائلاً في بلجيكا برمتها، ما زالت تداعياتها تمتد إلى يومنا هذا. وهذا يدل على أن هناك قطيعة بين مؤسسة المسجد ووظيفة الإمام التقليدي وبين الشباب المسلم في بلجيكا، الذي أصبح أكثر من ذي قبل في حاجة ماسة إلى التأطير المحكم والتوجيه السليم، والإنقاذ السريع من مخالب الأيديولوجيات الدينية والفتاوى العابرة للقارات والأئمة المتطرفين.
طرحت دراسة مايكل برايفوت (Michaël Privot) -باحث وأكاديمي بلجيكي، أستاذ في جامعة ليج ومساهم مؤسس في المعهد الأوروبي لدراسات الإسلام (EISI)، بلجيكا- الدوافع الرئيسة لتدريب الأئمة في أوروبا، من جانب أصحاب القرار والمؤسسات المعنية بشؤون المسلمين، مع اقتراح جملة من العناصر والعوامل والمؤثرات التي ينبغي مراعاتها عند تصميم منهج تدريبي مميز لأئمة المستقبل في أوروبا، مما يمكّنهم من أن يصبحوا لاعبين أساسيين في عملية إدماج الإسلام، بحيث يصبح عنصراً جوهرياً أصيلاً وجزءاً لا يتجزأ من المشهد الروحي للمجتمعات الأوروبية. فيمر على صعوبات تدريب الأئمة في أوروبا، والتركيبة الاجتماعية والديموغرافية داخل المجتمعات المسلمة الأوروبية.
يشدد الباحث على ضرورة توقع الاحتياجات المتجددة للجاليات المسلمة الأوروبية في الأمور المتعلقة بالدعم الروحي والأخلاقي، وهي في طريقها لأن تتبلور خلال العقدين المقبلين، مع مراعاة تصميم مقرر لتدريب الأئمة وفقاً لها؛ ومدى صواب فكرة تقديم تعليم على مستوى درجتي البكالوريوس والماجستير لأئمة المستقبل، مع منح شهادات رسمية جادة رصينة في نهاية المطاف، وليس مجرد «حلول بسيطة» قد تكون «جيدة بما يكفي للأئمة»؛ وأخيراً، مدى صلاحية العلوم الإنسانية، ودراسات الإسلام تحديداً، لأن تكون بمثابة العمود الفقري لتدريب الأئمة، بحيث يكون تدريباً وثيق الصلة بالمجتمعات الأوروبية، ويسهم في تسهيل دمج الإسلام في المنظومة المعرفية الأوروبية الحالية، بالكيفية ذاتها لاندماج الإسلام في السياق المعرفي لمجتمعات أخرى في الماضي (مثل تركيا وإيران ومالي والصومال وخلافه).
تقدّم دراسة نيلز فالدِمار فيندِنغ (Niels Valdemar Vinding) -باحث وأكاديمي دنماركي، متخصص في تكون الأئمة بأوروبا الغربية، وأستاذ مشارك في قسم الدراسات الثقافية والإقليمية في جامعة كوبنهاجن (University of Copenhagen)، الدنمارك- شرحاً للتحدّيات التاريخية والقائمة التي تواجه تكوين الأئمة، فيدرس الجدل والنقاش بشأن المسلمين في الدنمارك، وما يتم تحميله للمرجعية الإسلامية والقيادة الإسلامية المسؤولية، والدوافع والسياقات التي مر فيها تعليم الأئمة، متناولاً المزايا الجوهرية والأكاديمية لبرنامج تكوين الأئمة.
تقدّم هذه الدراسة مزيداً من المناقشة لمسألة المرجعية في التعليم والمؤسسات وتجمل الطرق والتحدّيات الجديدة، بما في ذلك سياق كنيسة الدنمارك، ذات الأغلبية وقضايا الجندر (النوع الاجتماعي). كما تناولت التحدّيات المتغيّرة التي يواجهها الأئمة ورجال الدين المسلمون وغيرهم من المهنيين المسلمين في التطوّرات الأخيرة. وبالنظر إلى المهام العديدة والمتنوّعة التي يتعيّن أداؤها داخل المساجد وحولها، فإن المسلمين المهنيين والمتطوعين يواجهون تمييزاً عمليًّا ووظيفيًّا بين المهامّ الدينية. وفي هذا الصدد، تشكّل المرجعية والتمكين في شكل مرجعية معرفية ومرجعية مؤسسية عناصر تحليلية أساسية مهمة في دراسة الاتجاهات المختلفة في التنمية.
يخلص الباحث إلى أنه بالنظر إلى التاريخ، والمصادر المؤسسية والمعرفية المختلفة للمرجعية والدوافع والصلاحيات الاجتماعية للكنيسة والدولة، من الواضح أن تعليم الأئمّة نتاج متصل بالسياق أكثر من كونه شيئاً جوهريًّا أو ماديًّا أو مشروطاً بالحقائق الاجتماعية والدينية. وتلك ملاحظة رئيسة في المنطق الاجتماعي المعياري للإنتاج الديني المشترك. لقد رأينا تراجعاً متزايداً في صياغة التعليم الديني من قبل المسلمين أنفسهم، ولا يكاد يشار إلى مزايا التقاليد الدينية الإسلامية أو الافتقار إليها. والنتيجة هي الانفصال عن الواقع الاجتماعي والديني الذي يجب أن يعمل فيه هذا التعليم، لكنه مدفوع معياريًّا بالتغيّرات السياقية المهمّة.
تناول خالد محمد عبده -باحث مصري متخصص في التصوف الإسلامي- في هذه الدراسة الحركة السليمانية التي أسسها سليمان حلمي طوناخان والطرق التابعة لها، في أوروبا، بوصفها مؤثرًا موازيًا للتأثير التركي الرسمي وتأثير جماعة فتح الله غولن، كما تسلط الدراسة الضوء على مؤسس الحركة ونشأته، وتأثيره، وتشكل جماعته، المؤثرة في الأتراك في الدول الأوروبية.
هدفت دراسة دينا توفيق -باحثة في جامعة ملبورن (University of Melbourne)، أستراليا- إلى رصد الأسباب المؤدية إلى طرح مشروع قانون التمييز الديني في أستراليا، وسعت إلى التعرف على الثقافة الدينية في المجتمع الأسترالي.
تخلص الباحثة إلى أنه يوجد صراع دائم بين التيار المسيحي المحافظ والتيار العلماني داخل أستراليا؛ ويسعى كلا الفريقين إلى تطبيق أيديولوجيته، من خلال التأثير على الساسة واستمالة غالبية الشعب. وعلى الرغم من صعود نفوذ اللوبي المسيحي الأسترالي منذ تسعينيات القرن الماضي -في ظل حكومة جون هوارد- فإن هناك بعض المؤشرات التي ترجح تراجعه في التأثير على السياسات الداخلية للبلاد. أحد أهم هذه المؤشرات هو تأجيل تمرير مشروع قانون التمييز الديني، الذي دعمه سكوت موريسون استجابة إلى اللوبي المسيحي الحريص على استرجاع الهوية الدينية المسيحية للبلاد، وتعزيزها من خلال سنّ قوانين وتشريعات تجرم بعض القيم الليبرالية، وكل ما يتنافى مع التعاليم المسيحية اليهودية. على الرغم من هذا التراجع، لا يمكن تجاهل حقيقة أن المسيحية لها جذور عميقة في تاريخ أستراليا وهويتها، ولا تزال التأثيرات الدينية قائمة في البروتوكول البرلماني للبلاد، حيث يبدأ مجلس النواب جلساته بتلاوة الصلاة، ومعظم المدارس الأسترالية تخضع لسيطرة الكنائس، وتحصل على إعفاءات ضريبية سخية، ويتمتع الأساقفة ورؤساء الأساقفة بمكانة اجتماعية عالية. والتعبير عن المعتقدات الدينية ليس مشكلة في حد ذاته، ولكن الأزمة الحقيقية تقع عند محاولة تبني نظام ثيوقراطي في مجتمع قائم على مهاجرين قادمين من ثقافات وخلفيات اجتماعية وديانات مختلفة.