يقدّم هذا الكتاب قراءةً تحليلية للمصادر التي استقى منها الإسلامويون معارفهم التنظيمية والحركية والأيديولوجية التراثية والمعاصرة لتحوراتهم. فيتقصى طبقاتها عبر أبرز رجالاتها منذ جهودهم الأولى؛ كما في طبقة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأثرها في تغيير نظام الإيمان، مناقشًا تأثر الطبقات كلها بالبيئة السجالية المحيطة بها. ويدرس انتقال الفكرة التنظيمية والأيديولوجية لجيل حسن البنا التأسيسي؛ وتأثره بالفاشية والأفكار السجالية. تطرق الكتاب إلى تأثر الجيل الثاني من الإسلامويين بدعوة فتح النص الديني، والاستفادة من أشراط احتكار تفسير الوحي الجديدة، بعد ربطها العلم والإيمان بشرعية السلوك الحركي التنظيمي، الأمر الذي استُغِل لاحقاً في استصدار فتاوى التكفير الجماعي.
يقف الكتاب على مساعي إعادة تفسير القرآن بأسلوبٍ حركي كما ظهرت لدى سيد قطب وأبي الأعلى المودودي. وفي الجانب التطبيقي لتحليل المصادر، تناول الباحثون مصادر كتب ومؤلفات: يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي وآخرين؛ كما قدموا قراءة لمصادر تنظيم داعش الإرهابي.
تم النشر في: July 2021
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «مَصادِر الإسلامويين: جذور الصناعة الحركيّة» (الكتاب الخامس والسبعون بعد المئة، يوليو/ تمّوز 2021)، دراسة المرجعيّات الفكريّة الأوليّة لتوالد وبقاء وتحولات الإسلامويين الحركيين. فعلى إثر تناولنا ظاهرة الإسلام السياسي من جهة: التأسيس، والمراجعات، والتحوّرات، والتشكلات التنظيمية المحلية والدوليّة، واستراتيجيات اختطاف تمثيل المهاجرين بعد عزلهم، واستغلال خطابات الإصلاح الديني والسياسي؛ يستند هذا الكتاب على تشخيص مرجعيات العقل الإرهابي عموماً والحركي خصوصاً؛ إذ نبه (التشخيص) إلى أهمية تقصّي جذور الحركية الإسلاموية، في سبيل تفكيك اِلتباس الفصل المزعوم بين (الدعوي والسياسي)، وتقديم قراءة أعمق للطبقات (المعرفية أو التنظيمية)، واختبار المصادر التي تتأسس عليها الأيديولوجية المتطرفة والتنظيم المرن.
تتقدم كل حزمة، من هذه الحزم، على غيرها حسب الحاجة. أما في المراجع الدينية الإسلامية التي اعتمدت عليها، فسؤال أصالة المصادر التي استند إليها المفكرون المؤثرون في صناعة الحركية مفتوح، ولكنّه يميل إلى الإقرار بانتزاع النصوص التأسيسية للدين عن سياق نزولها التاريخي أولاً، وسياق فهمها المجتمعي المتراكم ثانياً، إذ يلاحظ الكتاب تولّع المنظرين المؤثرين للحركية، بإعادة تفسير القرآن تفسيرًا حركيًا يتسق مع احتياجاتهم التنظيمية، وانفعالاتهم السلوكية، لا سيما مَن تأثر بسيد قطب (1906-1966) وأبي الأعلى المودودي (1903-1979).
تناول عبدالباسط سلامة هيكل -باحث وأكاديمي مصري، وأستاذ علوم العربية وآدابها- في دراسته مفاهيم مثل الجاهلية، الحكم، التجديد، الشريعة، للتعرف على جذورها اللغوية الأولى، واستعمالاتها في القرآن الكريم والمرويات والكتب التراثية ومقارنتها باستعمالاتها المعاصرة في معجم جماعات الإسلام السياسي؛ كاشفًا عن التباين بينها، في محاولة لتعرية مفاهيم الجماعات وإعادتها إلى سياقاتها الإنسانية النسبية المحتملة للصواب والخطأ، المتأثرة بالأفق التّاريخي، والنسق الثقافي للعصر الذي أنتجت فيه، معددًا أسباب ومظاهر الاحتيال الدلالي في معجم لغة الجماعات.
انتهت الدراسة إلى أن أبرز مظاهر الاحتيال الدلالي في لغة الجماعات إعطاؤها بعض الألفاظ القرآنية والتراثية مدلولات متأخرة لم يعرفها العقل العربي الأول الذي نزل القرآن الكريم بلغته معبراً عن أفكاره، وقد نشرت هذه الجماعات تلك العدوى في المجتمعات العربية والإسلامية.
ويخلص الباحث إلى أن أخطر نتائج الاحتيال الدلالي في لغة الجماعات الإسلاموية إلْغاء المسافة بين ذات المنظّر المفكّرة والموضوع متمثلا في النص الديني، فتُثبّت المعنى عند فهمها، وتُروّجه في صورة الدين المنزل، فتكتسب مفاهيمها إطلاقية وسلطة إلهية، فما تقدّمه المجتمعات ليستْ أفكارا قابلة للصواب، وإنّما جاهلية تناقض الإسلام، وما تقدّمه الجماعات ليست أفكارا قابلة للخطأ، وإنما هي الإسلام.
تستهدف الجماعات من الاحتيال الدلالي إثارة انفعالات وعواطف الشعوب؛ ليصطفّوا خلفها، مسوّقين شعاراتها الإسلامية، وكأنّها الحلّ السحريّ لمشكلات المسلم المعاصر الذي يعيش واقعا متخما بأزمات معقّدة، يصعب على جماعات «التمايز بالإسلام على المسلمين» الخوض في تفاصيلها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ويرى أن أدق تمثيل للجاهلية المعاصرة ليس في المجتمعات وإنما في الجماعات، فكلمة الجاهلية قبل أن تُستخدم للدلالة على فترة تاريخية محددة زمنا بعصر ما قبل الإسلام، استخدمت في معنى التعصب والغضب، والخضوع لسلطة الانفعال دون الاحتكام إلى رزانة العقل وقوة المنطق، ومن هنا يأتي التعصب، فغضب الجماعات ودعوتهم المستمرة الجماهير للغضب هو الجاهلية بعينها. وإن التجديد ليس وليد تجربة عرفانية خاصة بالمرشد أو الإمام، بل هي، على نقيض ذلك، حالة من التفاعل الجمعيّ مع هموم الحاضر، بسياقاته التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية، وفي مقدّمتها؛ مواجهة التوظيف النفعيّ للدين الذي تُمارسه «جماعات التمايز بالإسلام على المسلمين» التي لا تتوقف عن زعمِها امتلاك الحقيقة، فالتجديد عملية تراكمية، متواصلة، شاقّة تبدأ من دراسة مشكلات الواقع ونقد الأنساق الثقافية والفكرية المهيمنة على صياغة بنية الفرد المعرفية، بُغية تقويمها وفقا لمتطلبات الحاضر، وضرورات المستقبل، وفق إطار الثابت والمتغير من الدين. كما يظهر احتيال الجماعات الدلالي في الخلط بين التربية التنظيمية والتربية الروحية، وبين الخصومة السياسية والصراع العقائدي، وبين النص بمدلوله اللغوي ومدلوله الفقهي. وأن من مغالطات الجماعات ادّعاء أن الدولة الإسلامية قائمة على الوحي، والدولة المعاصرة قائمة على القوانين الوضعية المستمدة من عقول البشر، والفرق بين الوحي وآراء البشر، كالفرق بين الخالق والمخلوق، فالوسيلة في كلا النموذجين واحدة وهي عقول البشر، فنحن في كلا الحالتين أمام اجتهادات متغيرة ليس لها إطلاق وثبات الإلهي، وتشريعات إنسانية غير منفصلة عن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان خاضعة للظرف التاريخي الذي يتأثر به.
درس عكاشة بن المصطفى -باحث وأكاديمي مغربي متخصص في علم الاجتماع السياسي والديني- المؤثرات الغربية في عقل الأفغاني مقسّمًا دراسته إلى قسمين: يتناول الأول المصادر المعاصرة، والثاني المصادر التراثية. درس في تأثير المصادر المعاصرة في فكر الأفغاني؛ تأثير حركة الإصلاح البروتستانتي: وكيف حاول الأفغاني من خلالها التثوير على الأزهر، وبيّن النزعة المادية والمركزية الإثنية الغربية، وكيف وظّف جمال الدين الأفغاني المصادر التراثية من خلال العلوم العقلية، شارحاً مفهوم العصبية لدى الأفغاني.
خلص الباحث إلى أن فكر الأفغاني كان حركيًا أكثر منه نظريًا، إلا أنه مهد الطريق لجيل من المفكرين والمصلحين عايشوه وجاؤوا بعده، وتأثروا به إما إيجابًا أو سلبًا. الحركة الدينية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ليست حركة مثل الوهابية والسنوسية والمهدية، فهي تتميز عنهم من حيث إنها تدعو إلى إصلاح ديني لا مرجعية له سوى القرآن والسنة، أما ما عداه من فكر تراثي فقهي فيعتبره معرقلاً للفهم ومثبطاً للعزائم! إنها حركة استلهمت الحركة الإصلاحية الدينية التي قادها كل من مارتن لوثر وكالفن في أوروبا، وكانت سبباً في تقدمها في نظره. فهي راديكالية «فكرية» من حيث إنها تنهل من «فهمها للقرآن والسنة» وتدعو المسلمين إلى العودة إلى النصوص المؤسسة، عبر تثوير نصوص القرآن الكريم، وإعادة قراءته.
آمن الأفغاني بالفكر الحركي وليس التنظيري، فلم يكتب إلا قليلا، بل كان يحث على إنشاء الجمعيات والجماعات مثل جمعية العروة الوثقى السرية، وأحزاب مثل الحزب الوطني الحر «السري». وكان وراء إصدار صحف عدة من قبيل «مرآة الشرق»، وصحيفة «مصر» حيث قام بتثوير المجتمع عبر المقالات. آمن الأفغاني بأهمية التنظيم في حركة التغيير، فقد انضم إلى المحفل الماسوني الغربي، الذي كان حينها يرفع شعار الثورة الفرنسية (حرية - إخاء – مساواة)، ويندد بسيطرة «رجال الدين». كما مارس هذا التأثير في صفوف بعض العلماء والزعماء والمثقفين، من خلال دعوته إياهم لقراءة كتب تراثية غير معروفة ومألوفة في صفوفهم كما بينا سابقا. وأثر في محمد عبده ليقدم تفسيرا جديدا للقرآن. وهكذا نستحضر تفسيره الغريب -مثلا- لسورة الفيل والطير الأبابيل التي فسرها على أنها أمراض. كان يعتقد أن كل تغيير لا بد أن يأتي من أعلى (السلطة) عبر تحريض النخب المثقفة في الدولة ومسؤوليها. ومن خلال تأثير الرأي العام، ولذلك حرض على الكتابة الصحفية، وهكذا بفضله تم تأسيس مجلة العروة الوثقى وجمعيتها لمقاومة «استبداد الحكام».
قدّم الأفغاني الأسبقية للسياسي على الديني، من خلال اهتمامه بالتغيير بواسطة السلطة ورجالاتها، بدليل تنقله بين بلاطات السلطة في الدول الإسلامية، ثم في خطابه التثويري والعنيف من خلال الحمولة اللغوية القوية التي كان يستعملها في حديثه وفي خطبه الحماسية.
تناول أحمد الشوربجي -باحث مصري متخصص في الحركات الإسلامية- الشخصيات المؤثرة في حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين، فدرس المنهج الحركي للأفغاني، وتتبع مسار الأفكار مرورًا برشيد رضا الذي يرى الأفغاني المعلم الأول، في حين كان يلقب محمد عبده بالمعلم الثاني، مبيّنًا بداية الخيط بين رضا والبنا، من خلال محمد الخطيب.
يخلص الباحث إلى أن شخصية الأفغاني تأتي بوصفها الشخصية الحقيقية الملهمة لجماعات الإسلام السياسي بصفة عامة، ولحسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة. أتت الضربة القاضية على يد حسن البنا تلميذ رشيد رضا، فنجح في تكوين جيل جديد دوغمائي يُكفِّر -إن اقتضى الأمر- كل الخارجين عليه، فالأيديولوجيا المؤلفة لا تقبل المساومة أو الحوار، ولا تعرف سوى القتل والدمار.
درس بشارة إيليّا -باحث لبناني في الفلسفة الإسلامية المعاصرة، وأستاذ محاضر في الجامعة الأنطونيّة في لبنان- تأثير المحيط الثقافي في تفكير محمد عبده، وحاول فهم التّناقض في عقله، متناولاً ثقافة الردود والسّجال التي قدمها عبده في كتاباته ودعواته، باحثّا في عقيدة التثوير التي حملها، كما بيّن التّناص في نصوص محمّد عبده في فهم المنظومة الدّينيّة وبين توما الأكوينيّ، فيلسوف الكنيسة الكاثوليكيّة، ومحاولات عبده استدعاء النص الديني الإسلامي- المسيحي، في مقاربات ومقارنات قدّمها عبده وعرضها الباحث.
خلص الباحث إلى أن محمد عبده ارتضى، في مشروعه، أنّ العقل أساس فهم النّصّ الدّينيّ. ولئن كان هذا العقل الفلسفيّ الهرمينوطيقيّ مجال بحث، منذ شلايرماخر (Schleirmacher)، ودلتاي (Dilthey)، إلى هيدغر (Heidegger) وغادامير (Gadamer) وريكور (Ricoeur)، فقد صار يحدّد إمكانًا فلسفيًّا من إبداعات العقل نفسه المسكون بشوق طبيعيّ إلى التّفلّت من حدوده، كما وصفه كانط (Kant). وأن دعوة محمّد عبده لتجديد منهجيّة التّعليم في المعاهد الدّينيّة، وهجومه الحادّ على التّقليد، وتحرير العقل من هيمنة الدّين ومؤسّساته، وإعطاء العقل سيادته العمليّة وسلطته القطعيّة المطلقة، كان له بليغ أثر في ولادات قيصريّة للتّيّارات اللّاحقة، من اللّيبراليّين، والأصوليّين، والإحيائيّين. ونحن نجد، اليوم، بعد حوالي قرن ونيّف، على انطلاق مشروع عبده، انهيارًا للتّعليم وتنامي معدّلات الأمّيّة في المجتمعات العربيّة. ونرى المهاوي للسّياسة والدّولة بالدّين، والتّنادي بالدّولة الإسلاميّة المحكومة بالشّريعة، وليس بنور العقل. فهل أجهض المشروع الإصلاحيّ والنّهضة، وما يعرف بإسلام السّكينة والاستقرار والطّمأنينة، والمحبّة، والغفران، والسّلام، الأهداف الأسمى للدّين!؟ وهذا ممّا أدّى بنا إلى دخولنا طور الحروب الفكريّة الأيديولوجيّة الّتي ما زالت ترافق وعينا المعاصر، في الإسلام الرّاهن، والّتي تحوّلت في الكثير من الحالات، إلى حروب فعليّة عقائديّة، ليس لها نهاية، كالّتي عاشتها أوروبّا قبل عصر النّهضة، مع محاكم التّفتيش الكاثوليكيّة.
تسلط دراسة أستاذ اللغة العربية بجامعة ولاية لويزيانا مارك واجنر (Mark Wagner) الضوء على توظيف الحركيين الإسلاميين لآيات القرآن الكريم، مركزاً على النقلة النوعية التي أحدثتها تفسيرات محمد رشيد رضا تحديداً، ومستنتجاً أن تحول الآيات إلى شعار إسلاموي ما هو إلا نتيجة غير مقصودة لتأرجح رشيد رضا بين أستاذه محمد عبده والتفاعل بين المذاهب الإسلامية من جهة، وتوجهاته السلفية من جهة أخرى.
يدرس الباحث التوظيف النظري الإسلاموي للنص القرآني وتحديداً آيات سورة المائدة (48:42) التي تتحدث عن الحكم بما أنزل الله بوصفها نصّاً في الباب، مبيناً كيف تعمد الإسلامويون الإغفال التام للتحولات التي طرأت على الفهم الإسلامي لتلك الآيات في المدونة الفقهية التفسيرية، وعبر مختلف المذاهب الإسلامية، فاعتمدوا قراءات انتقائية تصرّ على القول بهذه المقابلة الحديثة بين القانون والشريعة، وتعمل على ترسيخها في الوعي الإسلامي المعاصر.
تحدّث عبدالجواد ياسين -قاضٍ سابق، ومستشار ومفكر مصري- في دراسته عن نشوء الإسلام السياسي في نسخته المعاصرة بتشكل جماعة الإخوان المسلمين في أوائل القرن الماضي؛ وكيف تفاقم حضوره كظاهرة إشكالية بامتداد هذا القرن، أي في غضون الفترة التي أخذت تشهد نتائج الاحتكاك بالحداثة الغربية بعد حوالي قرن من بدايته. مشيرًا إلى الاحتكاك لم يسفر إلا عن تحولات جزئية وذات طابع نخبوي على المستويين الاجتماعي والثقافي، لكنه أدى إلى تطور سياسي جسيم تمثل في ظهور أنموذج «الدولة الوطنية» بخصائصه العلمانية «المفترضة»، الأمر الذي شكل استفزازًا مباشرًا لحساسية النظام الديني الراسخ ببنيته الثيوقراطية التي تجمع بين فكرة الدولة وفكرة الشريعة. فتناول الإسلام السياسي والحاكمية والخروج على الدولة ضمن سياقات التحول الثقافي، والخلفية النظرية المباشرة لتشكلها، مرورًا بأثر الأفغاني ورشيد رضا وحسن البنا.
ينتهي في دراسته إلى أنه لا توجد حركة «دينية» غير أصولية أو سلفية، من جهة ارتباطها بحقبة التأسيس كمرجعية كلية ملزمة. وفي المقابل، لا توجد حركة «سياسية» غير عصرية بمعنى ما، من حيث دوافعها ومحركاتها الآتية. الفارق بين تيار ديني سياسي وآخر، من هذه الزاوية، هو فارق «درجة»، يتعلق بطريقة الوعي بالمرجعية من جهة، وبالواقع العصري من جهة ثانية. وهي مسألة تعكس تأثيرات الاجتماع السياسي المتباينة.
يرى الباحث أن الحركات الدينية تشتغل على مرجعياتها التأسيسية بشكل انتقائي، وتنزع عادة إلى الخيارات الفقهية والكلامية الأكثر تشددًا، أو هي تبدو كذلك بسبب انطلاقها أساسًا من موقف نقدي حيال المجتمع والسلطة، وينطبق ذلك على جماعة الإخوان، التي تكشف –على الرغم من بنتيها المهجنة ورغبتها في مغازلة الحداثة- عن خلفية «سلفية» ذات طابع ماضوي خشن. ويضيف أن البنا وضع -بسلفيته السياسية المهجنة- بذرة التكفير والعنف من زاوية أخرى، هي زاوية الحاكمية، التي ستظهر في الجيل الأصولي التالي بدءًا من سيد قطب.
اهتمت دراسة الباحث المغربي منتصر حمادة، بالمصادر المعاصرة والتراثية في مؤلفات وكتابات يوسف القرضاوي، وتأثيرها في مواقفه السياسية، بحكم أنه أحد منظِّري جماعة «الإخوان المسلمين». وقدّم بعض المقارنات بين تعامل القرضاوي مع تلك المصادر قبل اندلاع أحداث «الفوضى الخلاقة»، أو أحداث 2011، والمرحلة التي أعقبتها.
درس الباحث الخطوط العريضة في مؤلفات القرضاوي: المودودي والإخوان، تأثير المصادر التراثية في مؤلفات القرضاوي، وخطاب القرضاوي في السياسة والدين. يتناول الباحث نماذج تطبيقية في تحليله كتب القرضاوي "الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه"، و"أمتنا بين قرنين"، و"الإسلام.. حضارة الغد"، و"القضايا المبدئية والمصيرية للإنسان".
يخلص الباحث إلى أنه بحكم أن مؤلف هذه الأعمال يُعتبر المنظر الأول للحركة الإسلاموية في المنطقة العربية، وبشهادة أتباعه والمتتبعين لمؤلفاته وارتباطاته، فمن الطبيعي أن يأخذ أتباع الحركات الإسلامية من مواقفه الفكرية، موازاة مع الأخذ من مواقفه الدعوية والسياسية، كما جاءت في مؤلفاته ورسائله ومواقفه، لولا أن هذا النهل الفكري، انطلاقاً من هذا الأفق الاجتهادي الضيق، لم يكن يساعد على انفتاح الأفق المعرفي للأتباع الإسلاميين المعنيين بقراءة هذه الأعمال، حيث بقيت تلك المواقف الفكرية تدور في فلك الدعاية للمشروع الأيديولوجي الإخواني، بينما الفكر الإسلامي أو العقل الإسلامي بشكل عام، أكبر من أن يختزل في خطاب أيديولوجي دون سواه، وهذا ما عاينه الباحث في النماذج أعلاه، بما يُفسر غياب إحالات أغلب الأقلام البحثية التي اشتغلت على مشروع «إسلامية المعرفة» على أعمال يوسف القرضاوي، سواء تعلق الأمر بالأقلام الإسلامية التي اشتغلت على ذلك كمشاريع أوسع من محيطه الأيديولوجي.
درس محمد الحدّاد -أكاديمي وباحث تونسي، وأستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة بتونس- ما أثير من جدل حول كتاب «الحريات العامة في الدولة الإسلامية » لراشد الغنوشي مفنّدًا اعتباره جزءًا من الحركة الدستورية التونسية التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر. رافضًا التسليم به ضمن سياقات التفكير الدستوري التونسي بالمعنى الدقيق والعلمي لهذه العبارة. ويرى الباحث أن المرجعية التونسية غائبة في هذا الكتاب، أما المرجعية السائدة فيه، فيتبوّأ أبو الأعلى المودودي، من الناحية النظرية، المكانة الأولى في الأثر، يتلوه سيل من الشخصيات المنتمية لتيار الإسلام السياسي أو المتعاطفة معه.
يستنتج الباحث من هذه الدراسة في مرجعيات كتاب «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» أنّه يتنزّل في إطار المجادلات داخل حركات الإسلام السياسي والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهي مجادلات محورها تحديد أفضل الطرق للوصول إلى السلطة والمشاركة فيها والاحتفاظ بها. وقد دافع الغنوشي عن أطروحة مفادها أنّ الديمقراطية من بين هذه الطرق، وأنّ على حركات الإسلام السياسي أن تقبل بمراجعات جوهرية إذا أرادت أن تصل إلى السلطة، منها التفاعل الإيجابي، نظريا وعمليا، مع مصطلحات وتجارب من خارج الدائرة «الإسلامية» ومن أصول غربية وعلمانية، بعد القيام بعمليات التأصيل الضرورية لإعادة تنزيلها في المنظومة الإخوانية. وذلك في إطار رؤية عامة لا تعترف بأدنى تمييز بين المجالين السياسي والديني، بل تجعل السياسة في خدمة حركات الإسلام السياسي ودعاة احتكار التأويل الديني.
ولئن كانت أطروحة الغنوشي متقدّمة على الأطروحة التقليدية للحركات الإخوانية وعلى الموقف الرسمي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، من جهة أنه لم يطرح الديمقراطية كمجرد أداة، بل أقرّ في طبعة تونس بأهميتها المرجعية والفلسفية، فإن عمليات «التأصيل» قد أفرغت المفاهيم السياسية الحديثة من مضامينها العميقة، وجعلت البناء العام مترنّحا بين الوفاء لأفكار الروّاد، البنّا والمودودي وعودة وقطب، وأفكار ذات قيمة عملية أساساً، ناتجة عن فشل التجارب السابقة في الوصول إلى الحكم. وعليه، فإن القضية الرئيسة للأثر لم تكن البحث عن أفضل السبل للحكم الرشيد والنافع للشعوب، بل البحث عن أفضل السبل لتمكين حركات الإسلام السياسي من الحكم، وشتان بين المبحثين. لذلك لا تنجح هذه الحركات في إدارة الدولة، حتى في حال تمكّنها من السلطة، لأنها لا تصدر عن رؤية واضحة للدولة وبرامج في طرق تسييرها. وعلى هذا الأساس، وجد الباحث أن الكتاب يستمدّ أهميته من الجدل القائم داخل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين حول خطط الوصول إلى السلطة، ولا يستمدّ أهميته من العلاقة بالفكر الدستوري التونسي المتواصل منذ منتصف القرن التاسع عشر.
لم ينطلق الغنوشي من ذلك التراث الدستوري المتراكم أطروحات وتجارب، ومن باب أولى أنه لم يتفاعل مع كتابات كبار القانونيين الدستوريين في تونس، الذين درّسوا في كليات الحقوق ونشروا كتابات متميزة في الموضوع، كما بيّن الباحث أنّ حركة «النهضة» فضّلت بعد الثورة عدم التركيز على هذا الأثر في فترة إعداد دستور الجمهورية الثانية كي لا تلزم نفسها بموقف محدّد وتترك مجالاً واسعاً للمناورة، وتغيّر مواقفها حسب المصالح السياسية المباشرة التي يمكن لها أن تجنيها.
تناول بومدين بوزيد -باحث وأكاديمي جزائري، وأستاذ محاضر في قسم الفلسفة بكلية العلوم الاجتماعية، جامعة وهران (الجزائر)- في هذه الدراسة ملمحاً من فكر مالك بن نبي وبحث عن سياقه التاريخي، من التأثر بابن باديس (1889 - 1940) والنهل من الموارد الفلسفية الغربية والتلاقح مع الإخوان المسلمين والصدام الظاهري مع سيد قطب قبل التعاون لتجنيد خصوم التيارات غير الإسلاموية في الجامعات الجزائرية وتقيس جذور الأفكار الانقلابية التي آمن بها.
يرى الباحث أن مسألة كسر التقليد في التاريخ الدّيني عند الجزائريين يبحث فيها كدعوة وآمال وليس كتفكير منهجي وعميق، أي كمنظومة فكريّة -فقهية، منذ اكتشاف «الآخر» المتفوّق في جيشه ونظامه في الحكم. ويستعرض الباحث محاولات الإصلاح الدّيني، والأصُول الفكريّة والموقف من الآخر لدى بن نبي، وكيف أصبح واجهة للتنظيم النخبوي.
يخلص الباحث إلى أنّ دعوة مالك بن نبي للنّهضة والحضارة والعودة إلى الإسلام قبل معركة صفين، شكّلت قاعدة فكرية استمرت مع تيار الجزأرة وبعض المفكرين الدّينيين، ولكنّ بعضاً آخر من تلامذته طعّمها بتأويلات سيد قطب والمودودي. كما أن انفراد مالك بن نبي الفيلسوف بالاستعانة بالتراث الفلسفي الغربي بحكم تكوينه اللغوي والفلسفي والعلمي ومعايشته للحضارة الغربية في فرنسا، ورؤيته التاريخية والنقدية سمحت له برسم المسافة مع الإصلاحيين والوطنيين واليساريين على السواء. واتفق بعض الدارسين على القول بتأثره بمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني.
درس ماهر فرغلي -باحث مصري متخصص في الحركات الإسلاموية- المصادر المعرفية التراثية التي تأسست عليها أيديولوجية داعش، فرصد طبقات منظري داعش، ومرجعياتها، متناولاً القضايا الفكرية الرئيسة للتنظيم، والأيديولوجية التي استند إليها. فمرت المصادر المعرفية عند تنظيم داعش الإرهابي بطبقات من المنظرين، فبدأت بسلسلة من الكتب المؤسسة، مثل ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ويليه دعوات السلفية التي أحيت ابن تيمية وقدمت شروحات لأفكاره، في كتب مثل التوحيد والدرر السنية ومفيد المستفيد، وتم إحياء تلك الكتابات في تأصيل وشروحات لدى المودودي في «الحكومة الإسلامية»، ومن بعده سيد قطب في «معالم في الطريق»، وتفصيلياً في «في ظلال القرآن».
يرى الباحث أن كل الكتابات الرئيسة تدور حول أن ما يسمى "الدولة الإسلامية" الداعشية تأسست ببيعة شرعية واختيارٍ ومشورة، وأنها لم تقم إلا بعد تمكين وشورى وبسطة سلطانٍ على أجزاء واسعة من أرض العراق وسوريا، وأن البيعة انعقدت لقائدها، وهي بيعة عامة، والشرعية والواقعية والسياسية تفند الكثير من الشبهات حولها.
بتحليل هذه المراجع، التي تعتبر بعضاً من مئات الكتب والرسائل الأخرى، يحدد الباحث أكثر المرجعيات تأثيرًا، وهما مجموعتان: القدماء، والمعاصرون، والأولى مؤلفون من علماء المسلمين المعتبرين لدى المسلمين المحافظين سواء كانوا سلفيين أم لا، وتفاسيرهم المحافظة والمتشددة والمؤصّلة للشريعة والتاريخ الإسلامي تم توظيفها للتوافق مع الطرح الداعشي، وابن تيمية مثالٌ جيد على هؤلاء، نظراً لأن نصوصهم على درجة من الأهمية لعدة أسباب: أنهم أكثر العلماء قبولاً بين صفوف السلفية، واعتبارهم أن التتار الذين اعتنقوا الإسلام لم يكونوا مسلمين حقيقيين، والنقطة الأخيرة تعتمد عليها الأجندة الإرهابية المعاصرة. أما المجموعة الثانية فهم المعاصرون وهم ثلاث فئات، كلهم يستمد فكره من الإرث نفسه ويقبع داخل الدائرة الدينية الأساسية نفسها: السلفيون ورجال الدعوى السلفية، حيث الاستشهاد بكلام هؤلاء العلماء وأقوالهم يضفي الشرعية على الطرح الإرهابي، كما يتوافق نتاجهم الفكري بصورة كبيرة مع الفكر الإرهابي العالمي. ومرجعيات إخوانية مثل سيد قطب. ومرجعيات الجهادية المعاصرة، كنجيب عبدالفتاح إسماعيل، يوسف العيري، وحارث النظاري، وأقوال أسامة بن لادن، وأبي مصعب السوري، وأبي أنس الشامي، وأبي عبدالله المهاجر.
قدّم إبراهيم أمين نمر -باحث أردني متخصص في مكافحة التطرف، وعضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث- قراءة في مجموعة مقالات منتقاة للمفكر والمؤرّخ السعودي علي العميم، تناول فيها الخلط المعرفي والتلفيق المصدري في كتابات الإسلامويين، وطرق توظيفهم المعلومة في نظرية المؤامرة، مستعرضًا مجموعة من التطبيقات التي تناولها العميم التي قدّم فيها عرضًا نقديًا، بعد أن تتبعها وتفحّصها وحلّلها ليكشف زيف الكثير من مزاعم وادّعاءات سقطت أمام أدواته البحثية والمعرفية.