يتناول هذا الكتاب تاريخ الدولة والكنيسة الروسية الأرثوذكسية، فيؤرخ للعلاقة بين الكنيسة والدولة بين سنتي (1917-1700)، لا سيما في الحقبة الإمبراطورية، ويرصد السجالات الدينية بين كييف وموسكو، حول نفوذ وسبق انتشار المسيحية في المنطقة السلافية الشرقية، ويركز على آثار فشل عملية التحديث الديني في أواخر القرن التاسع عشر ودوافعها، وما أدّت إليه من انقسامات؛ عارَضًا صلة الكنيسة الأرثوذكسية بالآخر بين سنتي (1917-1721)، ودور الدولة في صدور مرسوم التسامح الديني لسنة 1905، ويقدم قراءة تاريخية لمفهوم «موسكو – روما الثالثة» وتوظيفه في مسار استعادة القيم ومقاومة الغرب.
تم النشر في: January 2024
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في هذا الكتاب السّجالات حول تاريخ الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، بدايةً من العلاقة بين الكنيسة والدولة في روسيا (1700-1917)، وتحديات الكنيسة بعد إصلاحات بطرس الأكبر التي أدخلت قيمًا غربية غريبة عن التقاليد الروسية. تطرّق الكتاب إلى انقسام المسيحية الروسية بعد حقبة رومانوف وانبثاق طوائف مثل المؤمنين القدامى رافضي التحديث. وعرض علاقة الكنيسة باليهود منذ 1721، ودورها في مرسوم التسامح 1905. سلّط الكتاب الضوء على نظرية «موسكو روما الثالثة» بعد سقوط القسطنطينية واعتبار روسيا وريثة البيزنطية وحامية للأرثوذكسية، وآثار ذلك على السياسة الخارجية.
عرض الكتاب نصًّا مترجمًا لمحاور مستلة من كتاب (Истории Русской Церкви. 1700–1917) «تاريخ الكنيسة الروسية 1700-1917» للمؤرخ الروسي إيغور سموليتش (Igor Smolitsch) (1898-1970) وقد صدر باللغة الروسية. لفت فيه إلى أن مرحلة جديدة من تاريخ الكنيسة الروسية، بدأت في القرن الثامن عشر، عبر إعادة تنظيمها من خلال تأسيس أعلى هيئة إدارية للكنيسة (المجمع المقدس الكنسي)، والتي تسمى "فترة الجمعية السينودسيّة"، – والتي كانت تسمى "إدارة المجمع المقدس الكنسي"، وهي الهيئة الرئاسية العليا للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي أسسها بطرس الأكبر في 25 يناير (كانون الثاني) كجزء من برنامجه الإصلاحي الكنسي، متأثرًا بالتجربة الإنجليزية لهنري الثامن، وقد تم إنشاؤها عقب إلغائه للبطريركية ومنصب البطريرك. وكان السينودس يتألف جزئيًّا من الأشخاص الكنسيين يعاونهم العلمانيون الذين يعينهم القيصر، وهو رئيسه ليصبح الوصي على الشؤون السياسية والدينية- عند تأسيس المجمع المقدس الكنسي. كان لإدخال مبدأ الإدارة الجماعية، وإلغاء مبدأ وحدة القيادة في الإدارة الكنسية العليا، أهمية حاسمة بالنسبة للإمبراطور بطرس الأكبر (1689-1725). حتى ذلك الحين، كان هذا المبدأ الأخير تقوم عليه سلطة بطريرك موسكو، وعموم بلاد الروس. ومع ذلك، سيكون من الخطأ اعتبار تاريخ تأسيس المجمع المقدس في 25 يناير (كانون الثاني) 1721 بداية الفترة المجمعية.
جاءت الدراسة في ثلاثة أقسام: أولاً: الدولة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية (1900-1700). ثانيًا: الصعوبات الداخلية المرتبطة بالرعاية. ثالثًا: تحديث التعليم الديني وأثره في الكنيسة. توصّل فيها المؤرخ إلى أن الكنيسة الروسية لعبت دورًا رئيسًا، بل ومركزيًا في حياة المجتمع الروسي أثناء حقبة روسيا القيصرية (1547-1721)، وكان لها تأثير قوي وموثوقية لدى الحكام وطبقات الشعب الروسي. أدت إصلاحات بطرس الأكبر، العلمانية في جوهرها، والأوروبية في منهجها ونمطها، إلى حدوث خلل اجتماعي وثقافي ولاحقًا سياسي، وقد أثر كل هذا -بدوره- على الكنيسة، شأنها شأن كافة أجهزة الدولة الأخرى.
تحولت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، في العهد الإمبراطوري (1721-1917) إلى «كنيسة الدولة» التي حافظت على نمطها القديم في دعم القيصر والولاء المطلق له، لكن دون موثوقية، وقدرة على تصويب الأخطاء ومراجعة السلطة، والتصدي لظلم النبلاء في ظل غياب سلطة القانون، وهو ما أسقطها من أعين الشعب.
أنتجت عملية التحول القسرية بالاتجاه الأوروبي، مجتمعين داخل روسيا، اتسم كلاهما بالتطرف، بين من يرى ضرورة استنساخ التجربة الغربية الأوروبية في كل شيء، والقطيعة مع الماضي الروسي، ومن يرفض كل شيء مخالف لثقافة روسيا القيصرية، وتقاليدها ونمط حياتها. أضعفت إصلاحات بطرس الأكبر، التي كانت قسرية وحادة، الكنيسة إلى حد كبير، وعندما احتاج الأباطرة لدعمها لم يكن لديها من القوة والموثوقية والاستقلالية ما يمكنها من لعب هذا الدور، وكانت ثورات 1905 ثم 1917 إحدى عواقب عملية الإصلاح السريعة التي لم تراع انتقالها من الجانب الاجتماعي إلى السياسي وصولًا للحظة الثورة الروسية، بعد أن فقد المجتمع ثقته في الكنيسة، وتحلل من قيمه التقليدية والروحية، وهو ما مهد التربة للبلاشفة لحكم البلاد فيما بعد.
لاحظ أن فترة الانقطاع الطويلة بين الروس وأشقائهم من البيلاروسيين والأوكرانيين، بعد الاجتياح المغولي للمنطقة (1240م)، وانتقال تبعية هذه الأراضي لمملكة بولندا والمجر، أدت إلى توسع المذهب الكاثوليكي، ونشوء ثقافة جديدة نافرة من روسيا ومذهبها وثقافتها، وهو ما يفسر -إلى حد كبير- جزءًا من الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا، الذي يعد بمثابة تكرار لصراع قديم حول الدين ودور الكنيسة، والتبعية المطلوبة لبطريركية موسكو لضمان الولاء.
يجيب أندريه ميخالايكو ( (Андрій Михалейко) (Andriy Mykhaleyko، الباحث والأكاديمي الأوكراني في دراسته عن تساؤلات عدة: أين يقع مركز المسيحية الأرثوذكسية السلافية الشرقية؟ وما التقاطعات والتباينات بين الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية والروسية؟ وما مدى أحقية الأرثوذكسية الروسية بالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا؟
يُقدِّم الباحث في القسم الأول شرحًا حول الجدالات الدينية بين كييف وموسكو، عبر استعراض مختصر لانتشار المسيحية في المنطقة السلافية الشرقية. ويتعامل القسم الثاني مع المفاهيم الروسية عن ذلك التاريخ وتأثيراتها في المفاهيم والتفسيرات الروسية الأرثوذكسية، عن التطور الكنسي التاريخي للمناطق السلافية الشرقية بعد انهيار دولة كييف [كييف- روس] التاريخية. ويقدم القسم الثالث، تحليلًا عن وجهة النظر الأوكرانية بشأن تلك التطورات نفسها، فيما يتضمن القسم الرابع مقاربة نقدية عن الدلالة المعاصرة لذلك الموضوع.
يخلص الباحث إلى أن الدين الأرثوذكسي يحظى بقيمة سامقة في تعريف الهوية الروسية. بالتالي، يحتاج بوتين الكنيسة الأرثوذكسية كي تمتلئ فكرته عن روسيا الكبيرة بلغة من القيم. نتيجة لذلك، ليس مفاجئًا أن تكتسب البلدان الأرثوذكسية من الاتحاد السوفيتي السابق، بما فيها أوكرانيا، أهمية كبرى لروسيا بغية الحفاظ على هيمنتها. يجري السعي إلى نيل الهيمنة السياسية والدينية (الأرثوذكسية الروسية). في حالة أوكرانيا، يتوجب الحفاظ على تلك الهيمنة بطريقة خاصة. يضع البطريرك سيريل نفسه في خدمة ذلك، وبالتعاون مع الدولة، يتمسك بمسألة عمادة ومَسحَنَة روس سنة 988م، بوصفها أول نقطة تاريخية ثابتة في التاريخ الروسي، والأسطورة المؤسسة للدولة الروسية عبر الاستحواذ على دولة «كييف روس» بمعانٍ دينية وقومية وسياسية. في 2016، قرب الكرملين في موسكو، ثمة نصب للقديس فلاديمير، أمير كييف، وقد جرى تدشينه في احتفاء صاخب بوصفه علامة على استمرارية «كييف روس» مع الدولة والكنيسة المعاصرين. شكل ذلك التدشين رمزًا بامتياز عن مزج المزاعم السياسية مع الدينية بشأن تراث كييف. لقد أُدرجت تلك المزاعم في النظام العقائدي للسياسة الخارجية للدولة الروسية، لكنها في الوقت نفسه تعمل على شرعنة الاستحواذ الاحتكاري لشرق أوروبا وأوكرانيا، وأبعد من ذلك، تكون «أهداف الحرب» الروسية متمثلة في «حماية» خيال عن فضاء حضاري أرثوذكسي، من التأثيرات الخارجية.
كانت روس القديمة مع عاصمتها كييف -ولا تزال- الأسطورة المؤسسة للأمة لدى الأوكرانيين والروس، والدولة بالنسبة إلى الأوكرانيين والروس، والأرثوذكسية لدى الأوكرانيين والروس. يحتاج كل شخص في كل مجتمع إلى أسطورة. لا يعيش أي شخص ولا أي مجتمع من دونها. في غياب الأسطورة، تفتقد إلى هدف مشترك أو أي شيء يربط الشعب ببعضه البعض، ويعطيه الإحساس بالترابط. على الرغم من ذلك، لا يجدر بالأساطير والسرديات أن تغدو سلاحًا يستخدم الآخر بغية وضع الآخر تحت المساءلة، بل تهديد وجوده.
عرض الكتاب نصًّا لدراستين في اللغة الروسية، إحداها لـ يلينا بافلوفنا شيمياكينا (Елена Шемякина) (Elena Shemyakina، باحثة روسية، ونائب رئيس مجلس كنيسة الشفاعة لطائفة الأرثوذكس من المؤمنين القدامى في إيجيفسك، والثانية لإيلين نيقولايفيتش فسيفولود (Ильин Всеволод) (Ilyin Vsevolod) باحث روسي، وأستاذ مشارك في الأكاديمية الروسية للاقتصاد الوطني والإدارة العامة برئاسة رئيس الاتحاد الروسي. نشرت الدراسة الأولى في كتاب (Историко-Культурное Наследие Славянских Народов) التراث التاريخي والثقافي، الشعوب السلافية» الصادر سنة 2016 عن دار (Ижевск)، جاءت تحت عنوان (К 350-летию раскола Русской православной церкви) « في الذكرى (350) لانقسام الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. أما الدراسة الثانية فنشرت في مجلة "العلوم التاريخية والآثار" (ИСТОРИЧЕСКИЕ НАУКИ И АРХЕОЛОГИЯ) الروسية تحت عنوان (Церковный раскол и русский православный традиционализм) "انشقاق الكنيسة والأرثوذكسية الروسية التقليدية" في عددها الصادر لسنة 2015.
وخلصت المادة إلى أن الانشقاق الديني داخل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، انعكس على المجتمع والسياسة في روسيا، وخلق فريقين: الأول، مناصر للسلطة الإمبراطورية، غربي الهوى والهوية. والثاني، تقليدي، يعبر عن المجتمع الموسكوفي القديم، وهو ما أدى لخلل في الهوية الروسية، ما زالت آثاره واضحة حتى الآن.
تتحالف القوة المحركة خلف الإصلاح الديني مع القيصر أليكس ميخائيلوفيتش والبطريرك نيكون، على الرغم من اختلاف أهدافهما. أراد الأول، تحويل الأرثوذكسية الروسية من هوية ذات خصائص محلية إلى أممية يونانية، لاجتذاب الشعوب الأرثوذكسية تحت حكم الإمبراطورية الروسية. بينما أراد الثاني، نقل مقر البطريركية المسكونية من القسطنطينية «إسطانبول» إلى موسكو، ليصبح أول بطريرك مسكوني، والقائد المتحكم في كل الأرثوذكس الشرقيين حول العالم، وهو ما سيؤدي لازدواجية في السلطة، أدت لخسارة الكنيسة هامش الحرية الذي تمتعت به لصالح القيصر. وإيمانًا منه بالدور الحيوي للدين في سياسات روسيا الداخلية والخارجية، كان الرئيس فلاديمير بوتين، أول رئيس روسي، يقوم بزيارة لمقر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية للمؤمنين القدامى، في مايو (أيار) 2017، ودفع باتجاه التسريع بإنهاء الخلافات مع الكنيسة الرسمية.
لعب العامل الديني دورًا أساسيًّا في السياسة الخارجية الروسية منذ مراحل تكوين الإمبراطورية الأولى، ويبدو أن هذا العامل مازال حاضرًا، وهو ما يمكن ملاحظته في الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا، ودعم الولايات المتحدة، وسعي كييف لاستقلال كنيستها عن موسكو، وتشجيع بطريركية القسطنطينية المسكونية على اتخاذ هذا القرار، وهو ما أدى لقطع موسكو علاقتها معها، وزادت معها حدة الانشقاق داخل الأرثوذكسية الشرقية.
ألقت ورقة فلاديمير بروخوروفيتش بولداكوف (Vladimir Prokhorovich Buldakov)، كبير الباحثين في معهد التاريخ الروسي التابع للأكاديمية الروسية للعلوم- روسيا، الضوء على العلاقة بين اليهود والكنيسة الأرثوذكسية خلال حقبة الإمبراطورية الروسية (1917-1721)، وكشفت عن خلفياتها التاريخية والعوامل المؤدية إلى توترها وتأثير صدور مرسوم 17 أبريل (نيسان) 1905، «بشأن تعزيز التسامح الديني» على العلاقات بين الطوائف. جاءت عناوينها في خمسة أقسام: أولاً: التواصل بين الأرثوذكس واليهود، ثانيًا: الأيديولوجية الروسية واليهودية، ثالثًا: الكنيسة الروسية والطوائف الدينية، رابعًا: الكنيسة الروسية واليهودية، خامسًا: أبعاد معاداة اليهود في روسيا.
لفت الباحث إلى انتشار معاداة السامية في أعلى المستويات الحاكمة؛ ففي مارس (آذار) 1915، ردًا على نصيحة الوزير البريطاني لشؤون الحرب، اللورد هربرت كتشنر، بـ«عدم استفزاز اليهود»، انفجر وزير المالية ب. ل. بارك في خطاب عاطفي مسهب قائلًا: «اليهودية العالمية تشكل دعم الموجة الثورية في روسيا»، بينما اقترح المشاركون الآخرون في الاجتماع أنه يجب ترحيل اليهود ليس إلى أعماق روسيا، بل بالعكس، يجب طردهم إلى المناطق المجاورة للعدو. بشكل عام، كانت إمكانات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في التعبير عن موقف الدين المسيحي من الحرب محدودة.
كانت الجماهير لا تزال تحت سيطرة الأحكام المسبقة القديمة، على الرغم من أن الصحافة الرسمية كانت تمجد باستمرار الأعمال البطولية لليهود. قلت الريبة والحذر في التعامل مع اليهود خلف خطوط القتال مؤقتًا ما كان مدعومًا بالـ«جرمانوفوبيا» أي معاداة الألمان.. حتى ارتفاع الأسعار اتهم اليمين اليهودَ به؛ نظرًا لتلاعبهم بالسلع والمضاربة فيها وإخفائها. انتشرت بعض الشائعات في العاصمة، بما في ذلك حول توقع إلغاء حدود الاستيطان، التي كان لها أصداؤها على المجتمع. وفي هذا السياق، وردت تقارير من وارسو تفيد بأن: «سلوك اليهود، الذين يستقبلون الألمان في الأماكن الحدودية مرحبين بهم ترحيبًا حارًا ويعملون على نشر إعلاناتهم، يثير استياءً عامًا...». وحذا رجال الدين الأرثوذكس حذو السياسيين الليبراليين وقاموا برفض دعم من كان يمثل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية رسميًا، أي القيصر نيقولا الثاني. كان الحكم الذاتي ينهار من الداخل.
في 26 فبراير (شباط) 1917، في خضم الاحتجاجات المناهضة للحكومة، رفض أعضاء المجمع المقدس توجيه النداء إلى الشعب لدعم الملكية. الواقع، كان لبعض الكهنة دور في ترسيخ الشائعات المثيرة للذعر حول «القوى الخفية» و«الماسونيين» الذين تسببوا في قيام الثورة، ولكن معظم الكهنة العاديين كانوا متحمسين للموجة التي يطلق عليها المؤرخون المعاصرون اسم «الثورة الكنسية» أو «الثورة الرعية» أو حتى «الثورة الدينية». جعلت الثورة «مخاوف» الكنيسة المتعلقة بالشؤون «العسكرية» أقل أهمية من ذي قبل. وجدت الكنيسة الأرثوذكسية نفسها متأثرة بالثورة، ولكن بطريقتها الخاصة؛ حيث ارتدى بعض رجال الدين الأشرطة الحمراء على ملابسهم الكهنوتية بفخر (وسرعان ما أطلق عليهم الشعب اسم «الشمامسة الشيوعيون» و«المرتلون الشيوعيون»). كما صدرت بيانات مشتركة من رجال الدين والعامة تصرح بدعم الثورة. بشكل عام يمكننا القول: إن صرح الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كان ينهار بعد انهيار الحكم المطلق، الذي حاولت دعمه، ولكن بلا جدوى. كان مصير الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مأساويًا؛ والسبب في ذلك هو أن السلطة العلمانية الاستبدادية فرضت عليها وظائف حكومية غير مألوفة بالنسبة لها، دون توفير الحرية الكافية للتصرف. فيما يخص «القضية اليهودية»، كان رجال الدين مشتتين بمعنى الكلمة بين صوت الضمير والسياسة الدينية الرسمية، هذا بالإضافة إلى ترسبات معاداة السامية التي نشأت لدى الشعب على مدار قرون عديدة، والتي لم يكن من الممكن التغلب عليها إلا بالخطب الحرة.
قدّم باڤل كوزينكوڤ، (Павел Кузенков) (Pavel Kuzenkov) -باحث روسي متخصص في تاريخ الكنيسة الروسة الأرثوذكسية- قراءة تاريخية للمراحل التي جعلت روسيا بوصفها إمبراطورية خليفة للدولة البيزنطية من الناحية الدينية والسياسية، فتتناول نشأة مفهوم «موسكو - روما الثالثة»، وتعرض لصلابة العلاقة بين المسيحية والمجتمع والدولة، مما مكَّنها على الرغم من الاضطرابات والصراعات، في الحفاظ على وحدتها من خلال الروابط الأسرية التي جمعت الأمراء والتنظيم الموحد للكنيسة المتمثل في أبرشية كييف التابعة لبطريرك القسطنطينية. تناولها في خمسة أقسام: أولاً: مفهوم "الكاتيشون" ، ثانيًا: الإمبراطورية الرومانية والمسيحية، ثالثًا: سقوط بيزنطة وقيام موسكو، رابعًا: موسكو.. حارسة الأرثوذكسية، خامسًا: نشأة مفهوم موسكو -روما الثالثة".
خلص الباحث إلى أن روسيا في نهاية القرن السادس عشر، أصبحت الدولة الأرثوذكسية القوية الوحيدة في العالم؛ بوصفها خليفة للدولة البيزنطية ليس على الصعيد السياسي فحسب، ولكن على المستوى الروحي أيضًا، باعتبارها حاملة راية قضية التربية الأخلاقية للبشرية التي غرس بذورها قسطنطين العظيم. لم يترتب على هذا أي حقوق أو مصالح سياسية، مثل الاستيلاء على القسطنطينية أو على أي مدينة أو أراضٍ أخرى. علاوة على ذلك، كان يُنظر إلى أي أهداف دنيوية على أنها إهانة للمكانة المقدسة لـ«المملكة الرومانية» التي تُعد من حيث المنظور الإسخاتولوجي التقليدي، الدولة العالمية الأخيرة التي ستشهد المجيء الثاني للمسيح. لذلك، كان من المفترض أن تشكل القيم المسيحية العنصر الأساسي للدولة الروسية، وليس المصالح العسكرية والسياسية، ولا الاقتصاد، ولا الثقافة أو العلوم العلمانية.
تناولت دراسة تاتيانا ليونتييفا (Татьяна Леонтьева) (Tatiana Leontieva)، عميدة كلية التاريخ في جامعة تفير الحكومية (Tver State University) – روسيا، علاقة الدولة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الروسية بالكاثوليك والبروتستانت، خلال الحقبة الإمبراطورية (1721–1917)، وكشفت عن التوترات المرافقة لها، وطبيعتها بعد صدور المرسوم «بشأن تعزيز مبادئ التسامح الديني» في 17 أبريل (نيسان) 1905 والذي أدى إلى عودة عشرات الآلاف من المؤمنين من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية. جاءت الدراسة في قسمين: أولاً: العلاقات بين روسيا والكاثوليكية، ثانيًا: اللوثريون والسلطات الروسية (1915-1914).
خلص الباحثة إلى أن سقوط الحكم المطلق أدى إلى التخفيف، بشكل كبير، من وطأة الأوضاع التي مرت بها جميع الطوائف غير الأرثوذكسية -الكاثوليك والبروتستانت- على الرغم من أن عدم الثقة بهم في الأوساط الشعبية الروسية قد زادت، ما كان مرتبطًا بالتطلعات الانفصالية لبولندا، وكذلك بمطالبات الألمان المرحلين بالعودة إلى الأراضي التي تركوها وتعويض الأضرار التي لحقت بهم، بينما أدى تولي مقاليد السلطة من قبل حكومة شيوعية ملحدة، إلى تعقيد وضع جميع الطوائف في الإمبراطورية السابقة بشكل جذري.
تناولت نهال أحمد السيد -باحثة مصرية في الشأن الإفريقي بكلية الدراسات الإفريقية العليا، جامعة القاهرة- في دراستها التحركات الروسية لتأسيس تشكيل عسكري جديد، تحت مسمى «فيلق إفريقيا»، كبديل عن مجموعة فاغنر العسكرية في إفريقيا، بحيث يكتمل تأسيسه سنة 2024، في مسعى روسي واضح لتوسيع النفوذ في القارة الإفريقية بشكل رسمي، نظرًا لتبعية الفيلق الجديد لوزارة الدفاع الروسية، وستشمل المرحلة الأولى من انتشار «الفيلق الإفريقي» خمس دول (ليبيا، وبوركينا فاسو، ومالي، وإفريقيا الوسطى، والنيجر). أثارت الباحثة التساؤلات حول هيكل هذا الفيلق، وأهدافه، والتداعيات الناجمة عن انتشار التشكيل العسكري الجديد في ظل المنافسة الروسية الشرسة مع الجانبين الأوروبي والأميركي، وحددت أهم التحديات التي ستواجه انتشاره في التوقيت الحالي. جاءت دراستها في أربعة أقسام: أولاً: هيكل التشكيل العسكري، ثانيًا: أهداف الفيلق، ثالثًا: تداعيات انتشار الفيلق الإفريقي، رابعًا: التحديات الراهنة.
خلصت الباحثة إلى أنه على الرغم من عدم وجود مؤشرات تعكس إلى أي مدى سيتمكن التشكيل العسكري الروسي الجديد من تحقيق نجاحات، يمكن مقارنتها بما قدمته مجموعة فاغنر خلال السنوات الماضية، فإن موسكو أثبتت أن إفريقيا ستكون موضع التنافس الحقيقي مع الغرب والولايات المتحدة، وأنها ستسعى بكل الطرق نحو توسيع نفوذها، عبر تكوين واستحداث تشكيلات عسكرية تمكنها من تحقيق أهدافها، وسيطرتها على الموارد الطبيعية، وضمان مصالحها الاستراتيجية.