الوصف
يسلط زهير الجزائري -أديب عراقي، رئيس تحرير جريدة المدى سابقًا- الضوء على “ثورة تشرين” العراقية من ثلاث زوايا: الساحة والجمهور والسلطة، فيعرف بـ”ثورة تشرين” التي انطلقت لمحاربة آفة الفساد في العراق وكذلك على رمزية ساحة الاحتجاج، فيرى أن الـتاریـخ لـن یـؤثـر وحـده فـي الـهندسـة الاجـتماعـیة لـلاحـتجاج، إنـما یـتشكل الاحـتجاج كـما الـماء، آخـذاً شـكل الإنـاء الـذي یـحتویـه، فهذا الـفضاء الـدائـري داخـل الـمدیـنة الـدائـریـة مـتاح لـلكل، ویـلتقي فـیه الـكل دون هویـات محـددة ودون حـتى أن یـتعارفـوا، ووفـقا لـلحاجـات المشـتركـة وسـبب الاحـتجاج، یخلقون نوعا من التضامن العابر للطوائف والقومیات.
تعد الـساحـة الـمركـز الـرمـزي لـلمدیـنة الـتي خـطّها أبـو جـعفر الـمنصور. یــدخــل الــمواطــنون إلــى الــساحــة دون أن یــفكروا فــیها، وفي مــعانــیها، هي موجودة في بداهات لا وعیهم، ولذلك یتجاوزونها إلى محلاتهم وبیوتهم. تغير اسـم الـساحة -كما يشدد الكاتب- ووظـیفتها وهندسـتها مـع تـاریـخ الـعراق السـیاسـي الحـدیـث، وكـانـت مـعرضـاً لأحـداث تـاریـخیة. أسـس الـساحة ومـحیطها الـملك غـازي كـمركـز لـمدیـنة یـقسمها النهر، ومـحلاتـها مـغلقة عـلى نـفسها. بـاسمه سـمیت حـدیـقة الـملك غـازي، وبـاسـم زوجته سمي جسر الـملكة عـالـیة. تـغیّر اسم الـساحـة فـي العهد الجـمهوري إلـى ساحـة التحریر، وتـغیر اسـم الجسر إلـى جسر الجـمهوریـة، وأعـیدت هندسـتها فـأنجـز الـفنان جـواد سـلیم الـنصب الـذي سـیكون أیـقونـة الـساحـة وهو نـصب الحــریــة، وأضــاف الــزعــیم عــبدالـكریم قــاسم فــیها مــنصته لــتحیة الجـماهیر. الـبعث بـعد اسـتلامـه السـلطة لـلمرة الـثانـیة، أقـام فـیها یـوم الـسابـع والعشـریـن مـن يناير (كـانـون الـثانـي) 1969 أول مهرجـان لـلرعـب بـتعلیق جـثث (جواسیس) یدور حولها متظاهرون یهتفون (الموت للجواسیس)!
حاولت السـلطات الـمتتالـیة إعـادة تـشكیل هذا الـفضاء الـمزدحـم بـتحویـله إلـى مـركـز ثـقافـي: سـینما غـرنـاطـة، بـنایـة وزارة الـثقافـة، مجـموعـة مـكتبات عـند مـدخـل شـارع الـسعدون، إضـافـة لــلنصب الــرمــزیــة، نــصب الحــریــة لــجواد ســلیم والأم لــخالــد الــرحــال وجـداریـة فـائـق حـسن. لـكن الـمكان لا یـتیح مـجالاً لـثقافـة الـتأمـل، فـقد بـقي مـمراً یـتقاطـع الـناس فـیه دون أن یـعرفـوا بـعضهم ودون أن یـعرفـوا أنـفسم بالطائفة أو القبیلة. صارت الـساحـة بوصفها رمزاً للمدينة، مـركـزاً لـتظاهرات الاحـتجاج فـي الأعـوام (2011- 2015). وكـما فـي كـل مـظاهرات الاحـتجاج الـسابـقة، اخـتار الشــباب هذا الــمكان الــمفتوح والــمركــزي مــیدانــاً لاعــتصامــهم فــي 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
يشير الكاتب إلى أن (94%) من الـمتظاهرین يرون أن الاحتجاجات جـعلتهم یـشعرون بأهميتهم. وجـودهم فـي الـساحة، یرعــب السلطة الــتي أرادت أن تسلبهم الــحق والإرادة، فبدأت تتحرك وتتخذ ردود أفعال مختلفة: كـثرة اجـتماعات الـحكومة والـبرلمان، الاسـتعجال فـي تـمریـر قـرارات كـانـت نـائـمة عـلى الـرفـوف، كـثرة الانـشقاقـات داخـل الـكتل الـحاكـمة، الارتـباك بـین الـوعـود وإمكانـیة الـتحقق، الـمزایـدات وتـملق بـعض الـمتظاهریـن… كـل ذلـك ناتج عـرضـي لـلأزمـة الـتي خـلقها وجـودهم الـعنید فـي الـساحة، ولـذلـك أشـعرتـهم الـمشاركـة بـأنـهم مـساهمون فـي صـناعة تـاریـخهم.