الوصف
ترى ناتاليا ميلينتيفا (Наталия Мелентьева) (Natalya Melentyeva) -أستاذة الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية (Moscow State University)- في دراستها أن التقليدية بوصفها اتجاهًا فكريًا، ظهرت أواخر القرن التاسع عشر، مع مؤسسّها رينيه غينون (René Guénon) [عبدالواحد يحيى] الذي وضع خطاطة فكرية تأسيسية، لخصها بفكرةٍ عن وحدة باراديغم لغة التقليد الأصل وشموليته، وتناقضه مع باراديغم العالم المعاصر (180) درجة.
ترتبط التقليدية بالتمايز المبدئي بين مجتمعات التقليد ومجتمعات العصر. لقد بيَّن غينون أن ما يكمن في صلب التباين بين نمطي المجتمعات، ليس الأفكار والميثولوجيات والمقولات المختلفة، بقدر ما هو التناقض الأساسي بين باراديغمات التفكير وبنى اللغة الذي يشكل تنازع الرؤى العقدية. لفت غينون الانتباه إلى أن مبدأ التقدم الذي تسترشد به مجتمعات الحداثة، ما هو إلا بمثابة بنية أيديولوجية مصطنعة للعصر الجديد؛ وأن المجتمعات القديمة ليست على خط واحد للتطور مع الحضارة الحديثة المعاصرة. ومتابعةً لأفكار غينون، يبيِّن نصير التقليدية، المفكر الروسي ألكسندر دوغين (Aleksandr Dugin)، أن عالمي التقليد والمعاصرة ليسا مجرد مركبين (مجمعين) أيديولوجيين يعقب أحدهما الآخر على نحو متمايز، لا متزامن؛ بل هما باراديغمان أبديان متزامنان، متنافسان على مدى التاريخ البشري كله.
نجح غينون في «إقامة مسافة فاصلة عن اللحظة الراهنة» وبيَّن بجرأة أن منظومة العصر العلمياتية هي من صنع الإنسان، وأنها -بمعنى ما- مشروعُ تفكير مفروضٌ علينا، وتُمثِّل في الحساب الأخير تلاعبًا، شذوذًا، ونسخة لا أصل لها. إن نموذج نظام العالم هذا ما هو إلا مشهد بين كثرة من نماذج أخرى للواقع، ذات قيمة حقيقية بهذا القدر أو ذاك.
قسمّت الدراسة إلى ثمانية أقسام: أولاً: التقليد والمذهب التقليدي. ثانيًا: حروب العقل: الحداثة ضد “ما قبل الحداثة”. ثالثًا: ما بعد “الغينونية”.. مدرسة التقليدية الروسية. رابعًا: أفول باراديغم الحداثة. خامسًا: الحداثة.. ملاذ البشرية الأخير. سادسًا: الحداثة الجديدة.. انهيار الذات وإلغاء الإنسان. سابعًا: رحلة في مغزى الحضارات. ثامنًا: الحضارة الروسية: دولة أبوللو ضد الفلاحين.
تستنتج الباحثة أن الصور النمطية لليبرالية الغربية المعاصرة، تنتقل إلى المجتمعات الشرقية تدريجيًّا. فالغرب يحمل معه الكليشيهات المسطحة عن المادية والتكنوقراطية والاقتصادوية والاستهلاك الجامح والفردية والإلحاد، ونسخًا بلا أصل عن الفلسفة والفن والروحانية الجديدة. وخلافًا لمسيري الفكر الليبراليين، نجد أن أنصار التقليدية هم ورثة الطاقة الكامنة الهائلة، الميتافيزيقية واللاهوتية والفلسفية، التي تتمتع بها التقليدية مع كتلة من النصوص المقدسة، واللاهوت، وعلوم الخلاصية اللاهوتية، والمشاريع الاجتماعية. وبالرغم من وجود تباينات واعتراضات متبادلة في إطار التقليد نفسه بمختلف صيغ وروايات التقاليد التاريخية، يتمتع قطب التقليد، عمومًا، بأفضلية هائلة على قطب محور المعاصرة.
يسجل التقليديون الروس نوعية جديدة، وتبدلًا في صيغ ومعادلات الطليعة الإبستيمولوجية المعاصرة لما بعد الحداثة، الطليعة التي تفصح الآن صراحة عن الخلفية العدمية لرؤيتها العقدية، وعجزها عن اقتراح آفاق إيجابية للبشرية، وعن تنبؤ متشائم لجهة مستقبل الإنسان؛ وتصرح علنا بـ«لا إنسانيتها».
ترى الباحثة أن النخب الغربية، إذ تفرض على العالم سيناريو فاشلًا «لعالم واحد» ليبرالي، لكنها ترفض إعداد مشاريع اجتماعية جديدة، ملمحة إلى جزء من البشرية أن مصيره يكمن في أن يذوب في يوميات الحروب الكيميائية والجرثومية المحلية.
يتضح، اليوم، أكثر وأكثر أن النخبة الليبرالية عاجزة عن ابتكار مشاريع اجتماعية جديدة، كما كانت سابقًا تغري البشرية بلوحات زاهية عن مجتمعات «ما بعد صناعية»، «انفتاحية»، «تكنوقراطية»، وغيرها من المجتمعات «الحسنة». وهذه النخبة غير قادرة على حفز الاكتشافات العلمية والبحث عن مصادر جديدة لحلول ذهنية ذكية. تميل نخب الغرب المتسلطة إلى نقل جزء كبير من البشرية إلى أدنى طوابق الوجود/ اللاوجود. لقد أوصلتنا «ما بعد الحداثة» إلى قاع تبدد الطاقة والتدمير النهائي للإنسان. وأنه أمام هذا الخطر، وبإدراكهم الطابع الأخروي للنوماهيا المعاصرة، وامتلاكهم مفاتيح باراديغمها، يتعين على أنصار التقليدية، توحيد قواهم في المعركة من أجل البشرية، من أجل حياة الإنسان وكرامته، والتصدي بهمة ونشاط لأحدث مشاريع العصر المعادية للإنسان.