الوصف
يطرح المؤرخ البريطاني أرسطوتل كاليس الإشكالية الآتية: هل يمكن مقارنة فاشية ما بين الحربين بالتطرّف الديني المعاصر؟ يشير إلى الاعتراضات الأولية والكثيرة عليها، ويرى أنه في حين كانت الفاشية أساساً ظاهرة تاريخية أوروبية شهدها القرن العشرون، كانت علمانية في الغالب (مع بعض الاستثناءات المهمة)، وكانت ذات بنية أيديولوجية مفرطة القومية ومميّزة للغاية. وفي الوقت نفسه، من الصعب إغفال أوجه التشابه مع التطرف الإسلاموي: العداء للحرية الفردية والتعدّدية، وشيطنة الأعداء المتصوّرين، ورفض الحكم الديمقراطي، وتمجيد العنف الموجّه للمعارضين، واستخدام التكتيكات الإرهابية، واعتماد وسائل الإعلام الحديثة لأغراض الدعاية، والنزعة شبه العسكرية، وفرط الذكورة، وطقوس مهاجمة المعتقدات الدينية، بل حتى معاداة السامية… إلخ. لكن المقارنة بين الاثنين لا تعني الخلط بينهما. وإنما توحي بأن هناك رؤى مهمة يمكن اكتسابها من المقارنة بين مفهومين وظاهرتين سياسيتين مختلفتين.
يقارن الباحث بين الفاشية والإسلاموية، بوصفهما حركتين راديكاليتين لهما ميل قوي للعنف والإرهاب، ومثالين على السياسات المتطرّفة الحديثة مع التركيز على الجانب الأدائي/ الطقوسي للسياسة، بالإضافة إلى مجموعة من التقنيات المبتكرة والفاعلة للتواصل السياسي. لكنه يؤكد أن المقارنة المثمرة والأكثر إفادة بين الفاشية والتطرّف الإسلاموي، تتعلق بالطرق التي تكشف استغلالهما بفعالية مواطن الضعف في الأنظمة أو التيار السياسي السائد والاستياء العامّ الواسع منه. وعند النظر إلى الأمر من وجهة النظر الأخيرة، فإن المقارنة بين الفاشية والتطرّف الإسلاموي تتعلّق بأسباب وطرق نجاح كل منهما -بدرجات متفاوتة- في جذب الدعم العام والتعاطف في بعض الحالات باستغلال النقمة الشعبية الواسعة من السياسة السائدة، المحلية أو الوطنية أو العالمية.
يرى الباحث أن النجاح السياسي للفاشية في سنوات ما بين الحربين العالميتين، يسلّط الضوء على مدى هشاشة مشروع إحلال الديمقراطية وقابليته للانعكاس في ذلك الوقت. كما أن سرعة انهيار الأنظمة البرلمانية الليبرالية أمام الدكتاتوريات الاستبدادية في العشرينيات، وخصوصاً الثلاثينيات، تؤكّد قوة الفاشية العاطفية وهشاشة الدعم النخبوي أو الشعبي لليبرالية. فلا يمكن أن يحقّق أحدهما نجاحاً فاعلاً دون الآخر: أفاد الفاشيون من الميول الخفية القائمة إلى الاستياء والقلق والتوق إلى اليقين، التي لا تستطيع الهياكل المؤسسية لليبرالية السياسية معالجتها. الكثير تغيّر بطبيعة الحال منذ ذلك الحين، فأصبحت الديمقراطية أكثر ترسخاً مؤسّسياً، والوعي الديمقراطي أقوى بكثير في جميع أنحاء العالم اليوم مما كان عليه في أي وقت في النصف الأول من القرن العشرين، حيث كانت لا تزال تعدّ بدعة جديدة. غير أن تلك الثقة المتغطرسة في انتصار الديمقراطية الليبرالية المفترض الذي لا يمكن وقفه، التي أظهرها المنظّرون الغربيون في مراحل مختلفة من القرن الماضي، أحدثت بقعة عمياء تثير القلق عند تقييم الحالة الطبيعية الجزئية للتطرّف العنيف. وكما أشار عالم السياسة الهولندي كاس مود (Cas Mudde)، فإن التطرّف ليس مجرد مرض منحرف، منفصل تماماً عن المجتمع السائد، وإنما «حالة طبيعية مرَضية»! والتمييز مهم: التطرّف ليس نقيض تيار سائد مقدّس. بل هو مستمدّ من الأفكار والممارسات السائدة. لذا فإنه ليس «شيئاً» يمكن استئصاله من عقول الناس من دون معالجة ارتباطاته بالأفكار القياسية والمعتقدات والعادات والتحيّزات التي تمنحه قوته العاطفية وقدرته الجذرية على الانقلاب على الآخرين.